ثمّة شيء مفقود

ثمّة شيء مفقود

لم تعد الكتابةُ فعلاً ضرورياً بالنسبةِ لنا لما تقدّمه من جديد، قد لا نقدّمُ جديداً، لكننا نكتبُ لنكتبَ فقط، لنقول إننا أحياء، لنوثّق شهاداتنا في هذا الخراب المحموم، نكتبُ ما يؤكّدُ أنّ في المكانِ من كانَ يتنفسُ في حياةٍ باتت تشبهُ لعبة روليت.


ولم يَعُد شبحُ القذائف والتفجيرات هاجسَ خوفنا الأول، ثمة خوفٌ أكثر إلحاحاً بدأ يكبر ويكشِّر عن أنيابه كل يوم، خوفٌ من المجهول والخسارة والوحدة، من الضياع والندم، حيث القلق والترقب والدوران في حلقة الانتظار المفرغة.


«فجأةً لم نعد قادرين على السخرية كما كنا، فالمكان معدٌ كي يستضيف الهباء».


ثمة شيءٌ مفقودٌ وفرحٌ ناقص، وغربةٌ بدأت تجتاح المكان الذي فقد روحه. شوارعٌ تختزلُ وجعَ البلاد، حيث الازدحام البشري الهارب من حصاره النفسي إلى الطرقات مُفتِشاً عن أي فرحٍ ودهشة، أطفالٌ ونساءٌ يفترشون الأرصفة حتى ساعاتٍ متأخرة من الليل، يتسولون ما يسد الرمق، عرباتٌ وبسطاتٌ مُرتَجَلة تبيع أي شيء لتستجدي رغيف الخبز، وجوهٌ متعبة تحدِّقُ في المجهول بحثاً عن أفق ما، وكأن الشوارع أصبحت المتنفس الوحيد لهواء الحياة في مدنٍ أصبحت سجناً. ثمة قلقٌ يلازمنا كظلنا، قلقُ المصير والعمر الذي أصبحت أيامه خاليةً من أي هدفٍ أو معنى، بماذا ستحبل ذاكرة الحرب؟  والسؤال المُلِّح في كل لحظة: ماذا بعد؟ وإلى متى؟


كل شيءٍ بدأ يبهت، ضاعت هوية أحاسيسنا في فوضى المشاعر الملتبسة، لا صدى لصوتنا ولا منبر لأوجاعنا، أُرهِقَ صبرنا ونحن نلهث للبحث عن تفاصيلَ تعيدُ الحياة إلى صوابها، لا حدثَ إلا أحاديثنا المكررة عن الذهابِ أو البقاء في بلادٍ على أهبة الجنون، أو لقاءات خجولة يجتاحها الصمت والشرود، وكأن الأحاديث نفذت، وكأن السفر بات هو القدر الوحيد!


لا تمرُّ جلسةٌ دون أن نتذكر أصدقائنا البعيدين والمفقودين، ونفكر: هل ستمنحنا الحياة فرصةً لنلتقي مجدداً؟ صرنا نخاف التعلقَ بأحد، ونخشى أن نُسرِفَ في الفرح لأنه فرحٌ مؤقت، ولأن وجود جميع من هم حولنا يبدو مؤقتاً.


ثمة حزنٌ خفيٌ يجتاحنا كل حين، شعورٌ بالخيبة والخذلان، نفكرُ في كلِّ شيء، وفي اللا شيء، في آنٍ معاً. أحلامنا مؤقتة ومشاريعنا قصيرة الأمد، «لا تستطيع التفكير بالغد البعيد، لأن مصيرك غامض».


تمرُّ أيامنا سريعاً، ويباغتنا الوقت ونحن مشغولون بِسُبِل العيش والبقاء، نَبذلُ جهداً للحصول على بديهيات الحياة، وللتمسك بإنسانيتنا المتراجعة في ظل خسائرنا المتكررة ووداعاتنا المؤلمة. نرتجلُ الفرح والتفاؤل، ونحاول تجميلَ القبح، ونتشبث بما تبقى من أمنيات، نبحث عن أشياء تشبهنا، وعمَّا يذكرنا بتذوق الفن والجمال، ويشعرنا أننا على قيد الإحساس. نستجدي تواصلاً حقيقياً مع بشرٍ من دمٍ ولحمٍ بدل التواصل الافتراضي، فالحياة غيّرت مفاهيمها وأوصدت نوافذها في وجه الحقيقة. نَطرحُ آلافَ الأسئلة لنصطدم بعقم الإجابات، ثمة خوف يهدد قناعاتك ومبادئك ومعرفتك للعالم، صراعٌ بين بقائك سورياً صاحبَ قضيةٍ وحلم سوري، وبين وجودك إنساناً صاحبَ حلمٍ شخصي وفضاءٍ خاص.


هل تبدَّل مفهوم الوطن؟ هل نحن طوباويون وسجناء للوهم؟ وهل نُضيّع عمرنا في انتظار أحلامٍ أصبحت سراباً؟ لو تستريح هذه الحرب قليلاً ويهدأ هذا الضجيج لنلملم شتاتنا ونفكر بهدوء، لو يمنحنا الضياعُ هدنةً لنرتب فوضانا ونعود طبيعيين ونصغي إلى صوت قلبنا.


هل نحن أحياءُ فعلاً؟ هل نتبع خطى أصدقائنا أم ننتظر عودتهم؟ ثمّ هل ستشفى هذه البلاد؟!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +