المافيات الثقافية الجميلة

المافيات الثقافية الجميلة

كان يكفي -قبل الربيع العربي- أن تُمسكَ أيّ صحيفةٍ وتتصفّحها وتمرّ بأسماء من يكتبون فيها، ثمّ تعود في العدد التالي لتقرأ الأسماء ذاتها في الأماكن ذلتها وكأنّه استئجار بعقدٍ قديم لا فكاك له. والمشكلة لم تكن هنا وحسب، بل في أنّ هذا المتصرّف بهذا المكان «ثقافيّاً أو سياسيّاً» يمنع ظهور كتّابٍ جدد إلّا إن كانوا من المرضي عنهم من قبله، أو من قبل من يعلوه في هرم القرار المافيوي، وليس بناءً على جودة المادة أو أحقيّتها. لذلك أصبحت صحفنا -في ذاك العصر السحيق- (مماسح للغبرة)، وهذا لا يعني أن جودة المادّة ستجعل من الصحيفة لوحةً على جدران القرّاء، لأنّ هذا الأمر مرتبطٌ تماماً بصيرورة ورق الجرائد ونوعيّته وقدرته على تلميع الزجاج، إلّا أنّ الفارق، أنّ المادّة الجيّدة ستضيف قيمةً للقارئ، وستُحفر في عقله ولو تحوّلت صيغتها الورقيّة إلى ممسحة.


لقد كان عصراً ظلاميّاً بالتأكيد، أصنامٌ عاجزة عن تقديم الجديد، تجترّ نفسها لتعيد إنتاج الماضي، تحارب أيّ دخيل على الوسط وتنسف وجوده فوراً، و«النطنطة من فوق الأساطيح» لا تجدي معها، وكان على أيّ مبدعٍ أن يسير في قنوات التملّق و«اللحوسة» كي ينال رضا صاحب القرار، ويصبح عضواً صغيراً -غير مؤهّلٍ للانتصاب- في مجموعة الأعضاء الكبار. المشكلة أيضاً أنّ هذه النخبة المسيطرة صدّرت ثقافةً تشبهها وصنعت -بكلّ أسفٍ- قارئاً على شاكلتها، ونُقَّاداً على شكل مسرح دمى متوزعين ليصفّقوا لكل ما نتج عن هذه النخبة من إعجاز!


تقول لي أمّي القادمة إلى أوروبا بطريقة غير شرعيّة بعد أن قطعت البحر: «المهرّبون هم تجّار بشر، مافيات، وقطّاعو طرق، إن لم تتعامل معهم فسوف يكون لديك خيار من اثنين: الأوّل ألّا تعبر وتبقى في الغابات وتموت من البرد والجوع، والثاني أن تمشي وحدك بدونهم، وبهذه الحالة سيقومون بإرسال من يخطفك ويسرقك، أو سيبلّغون البوليس عنك، البوليس الذي يعمل معهم بالضرورة وله نسبة من الأموال التي يقتطعونها من جسدك». كم كان صعباً أن أشرح لأمّي أنّ الوسط الثقافيّ مليء بتجّار البشر وقطّاعي الطرق، كيف يمكن لها أن تفهم هذه المقارنة والمقاربة الخطيرة؟ دائما أشكر الربيع العربي والثورة لأنّها خلّصتنا من هذا العصر، كان عصراً أشبه بالقرون الوسطى، أمّا الآن، فلم يعد هناك ولاء للفرد الطاغية، أصبح الولاء للحزب الداعم وشخوصه، وللدولة المموّلة للحزب، وللآيديولوجيا الحزبيّة وعقيدتها، وهذا بحد ذاته أمرٌ عظيمٌ يحسب علينا.


بالدرجة الثانية، يأتي رضا مسؤول التحرير الذي بالضرورة يجب أن يعدّل ولو كلمة واحدة من مادّتك، حتّى ولو كان التعديل هو تبديل مرادفةٍ فقط كنوع من إضفاء اللمسات الجميلة، وقد يشطب فقرةً كاملة لا يرى لها مبرّراً، ويفعل كما كانت تفعل الأمّهات حين يقلبن محطة التلفاز عند مشهد القبلة ولا نعود نفهم شيئاً من الفيلم بعدها، ثمّ نقول «العمى ما أتفه هالفيلم» بالطبع المشكلة في الفيلم لا في الأمّ! ثم إن المحرّر أفهم من الكاتب بالضرورة، ولو كان غير ذلك لما كان أصلاً محرّراً، وتحوّل إلى مجرّد كاتب! كما أنّ علاقة الرقابة بالمؤسسات الأمنيّة قد تلاشت تماماً، أو على الأقل أصبحت سريّة ولا تعتقل الكتّاب من حول العالم! إنّها تكتفي بمراقبة صفحات فيسبوك الخاصّة بالكاتب، وببساطة توقف التعامل معه أو تفصله إذا كان ضدّ توجّهاتها الحكيمة!


النخبة التي كنّا نصفها بالمافيا سابقاً تغيّرت، فقد تركوا مناصبهم السابقة مع الأنظمة والتحقوا بمؤسّسات الثورة ليديروها بخبرتهم، نحن بالطبع بحاجة لخبرتهم الطويلة، ثم إنهم توقّفوا عن تمجيد الطغاة كالأسد ومبارك، هم يمجّدون الآن ملوك ورؤساء ووزراء خارجيّة الدول الأخرى ومدراء أجهزتها الاستخباراتيّة، أما مجموعاتهم السابقة التي كنّا نسمّيها «لوبيات»، فهي اليوم خلايا نحلٍ تُنتج إبداعاً وثقافةً تليق بالثورة، مستقاةً من ماضي النخبة العريق كردّ فعلٍ على مرحلة ما قبل الثورة بأسلوبها ولغتها ووجودها نفسه بعد الثورة، امتدّ ذلك ليشمل القرّاء والنقّاد أيضاً، هذا التغيّر الجميل يجب ألّا يُغفَل يا أعداء الحريّة والثورة!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +