أنا موزِّعُ خضار، تاجر جملةٍ من العيار الخفيف، من وزن سيارة إيسوزو، أغطّي ظهرها بشادرٍ سميك، وأسري كلّ فجرٍ إلى مزارع غوطة الشام، أشتري الخضرة من فلاحيها، وأنقلها إلى تجار الخضرة في السويداء.
كان لجماعةِ الأمن دوماً نصيبٌ من حمولتي، ولم يحدث من قبل أن سلبوني إياها كلها. أوقفوني اليوم على حاجز المطار، كانوا لطيفين، على غير العادة، وهم يطلبون مني أن أُنزِلَ صناديقَ البندورة كلها، وإلا ستتفعّس! هذه الجملة الأخيرة أرعبتني، أنا الجبانُ منذ ولدت.
لم أنبس، لم أجرؤ على السؤال لماذا، ولا على طلبِ العون من هؤلاء الواقفين مثلي على الحاجز، ولم أعترف للعسكريّ أن الديسك في ظهري صار يصعقني عند الصندوقة الخامسة.
اصطفّت صناديقي قرب الحاجز، وارتميتُ قربها والنارُ في ظهري. يقترب العسكريّ مني، ويخطف رزمة المفاتيح عن خصري، ويركب سيارتي، ويختفيان. مضتْ ساعاتٌ خمس، وأنا تحتَ لهيب الشمس، ولساني أخرس، وظهري مقصومٌ بسكين الوجع. عادت السيارة، فانتصبتُ واقفاً باستعداد. رمى العسكري المفاتيح في وجهي: «يسلموا إيديك يا حبيب».. شَكَرتُه.
بَرَق ظهري حين انحنيت لألتقط المفاتيح، توجّهت صامتاً نحو أول صندوقة بندورة. وجدتها مسلوقةً من الحرّ، وكذلك الصناديق الأخرى، لم ألمسها. استسلمتُ لعَرَج خطواتي، وكابدتُ في الدبيب إلى سيارتي، شغّلتها وانطلقت، ورائحة الدم الآتية من صندوقها تلهيني عن عصفِ ظهري.
لاقتني زوجتي إلى باب الدار، رأتني بلا لونٍ ولا عقل، وليس في يدي الأغراض التي طَلَبَت. خَرِسَت هي الأخرى وهي تشطف شاحنتي، وتجمع في كيسٍ ما علق بأرضها من بقايا أصابع وعظامٍ وخصل شعر، وشقفِ جلدٍ طريٍّ وخشن، ويدٍ مقطوعة من زندها، وبقايا ثيابٍ يخالطها خراءٌ نصف يابس، وبكلةُ شعرٍ طفوليّةٍ لم تتلف.
تتقيّأ وتبكي وتلطم وتحاول أن تسألني: يا ويلي.. قل لي ماذا فعلت.
طافت رائحة الدم في حارتنا، وجاءت الجارات، ورأينَ ساقية الماء الممزوج بالدم تسيل من أرض السيارة، وغادرنَ قبل أن تعرف زوجتي بماذا ستجيب. لم أعد أسافر إلى الشام، ولا أخرج أبداً من بيتي. أطوف كل الوقت في زواياه بعينين فاغرتين، أستعيد ما جرى، أحاكي الجدران، وأشدّ شعري وألزم الصمت أمام الجميع بمن فيهم زوجتي وجيراني. راقَهم أن يعتبروني قاتلاً، مجرماً «مخبّى بجلده»، حاملاً كل ذلك الدم في عنقي. أَسِفوا لأنهم كانوا مخدوعين بـ«جار الرضى» عبر سنواتِ جيرتنا الطويلة. لم يعد يزورنا أحد، ولم يعد لي صوتٌ لأخبرهم أنني مواطنٌ سوريّ صالحٌ لا يجرؤ على عصيان رجال الأمن.