في الدير والمقام

في الدير والمقام

تزدحمُ الأجندة الشعبية المصرية بالاحتفالات والموالد الإسلامية والقبطية التي تُغطي العام كله، وتلفُّ محافظات مصر كلها، وللمولد المصري طقوسه الموحدة، لا تختلف من مولد شهيدٍ مسيحي إلى عارفٍ بالله، شيخ طريقة صوفي.


في محيط المولد ترى المراجيح، مراكبَ الشمس الحديدية، بنادقَ الرماية ولوحات الرمي القديمة، ملاهٍ حديدية شعبية، تدورُ المحافظات من شمال مصر إلى جنوبها. ثم تأتي الحلوى، يتندر المصريون، لا تخرج من المولد بلا حمُّص، الحمُّص والحلويات دليلٌ على مرورك بالمولد والدعاء فيه، أو الاحتفال به.


في مدينتنا أسيوط، 375 كم جنوب العاصمة القاهرة، يحتفل المسلمون بمولد مفسِّر القرآن جلال الدين السيوطي، في أغسطس. وبعدها بأيامٍ يحلُّ عيد السيدة العذراء في ديرها الشهير بجبل «درنكة» ومغارته الأثرية، التي تقول المراجع إنها كانت مخبئًا للعذراء وابنها المسيح أثناء هروبهم من بطش الحاكم الروماني.


حول مقام الأسيوطي، ترى آلاف العاشقين يمسحون أيديهم وملابسهم بمقامه، يوقدون له الشموع، ويذبح الأغنياء منهم الذبائح، ويُختَم القرآن بأصوات المقرئين، وتُوزَّع اللحوم، ويتكفل القادرون باستقدام منشدٍ صوفيٍ شهيرٍ يقيم الليالي حُبًّا في رسول الله، ومدحًا في صاحب المولد. ثم ينفضُّ مولد الأسيوطي، يجمعُ باعة الحلوى وأصحاب المراجيح حمولهم، ويتجهون إلى جبل «درنكة»، حيث دير السيدة العذراء، وينتقل معهم المحبّون، مسلمون وأقباطٌ يصعدون الجبل في مشهدٍ مهيب، يسيرون كنملٍ صغيرٍ فوق صحراء الصعيد الحارة حُبًّا في العذراء حتى يصلوا إلى مغارتها الأثرية، يكررون الطقوس نفسها، يمسحون بأيديهم موطأ قدمها، ويكتبون لها الرسائل كأثرٍ يبقى على مرورهم بمحلِّ اختبائها، ويوقدون الشموع، وتطلق النساء منهم الزغاريد حبًا وفرحًا.


إيمان المصريين العميق بالأولياء والقديسين المسلمين والأقباط، يتجاوز الإيمان بالدين، أو حوار العقل، ليصل إلى ما يرويه الناس من حكاياتٍ غامضة، يطلقون عليها معجزات الشفاء. فمنهم من يأتي للعذراء ليطلب منها شفاءًا من السرطان، ثم يعود إلى طبيبه فيتبين له أنه مصابٌ بورمٍ حميد. يتوهم بعدها على الفور أن شفاعة العذراء توسطت له عند الله، ليتغير الورم من السرطان إلى خطرٍ أقلّ.


حكايات المصريين الغامضة في مواكب الأولياء والقديسين، تجعل عقولهم لعبة في يد السلطة الدينية، وليس أدلَّ على ذلك مما فعله الأنبا «يوأنس» أسقف عام أسيوط، والأسقفُ هو أكبر مسؤولٍ قبطيٍ في تلك المحافظة، حيث وَضعَ على كتفه حمامةً دار بها في الليلة الختامية لمولد العذراء، وقادَ فريقًا من الشمامسة معه. الحمامة لا تتحرك، يتأوه الناس استغرابًا ودهشة، قدراتُ الأسقف الخارقةُ تُثبِّت الحمامة على كتفه، مع الأخذ في الاعتبار دلالات الحمامة لدى الأقباط. الحمامةُ هي العذراء، تطير أينما ظهرت، وتعلو فوق الصليب عند كنيستها.


يتداول الناس قصة «الأسقف والحمامة» ثم يتبيَّن بالصور، أن ريشها المقصوص يجعل طيرانها من فوق كتفه مستحيلًا، بل تسقط أرضًا ويدوسها الناس إن فكرت في الهرب.


حول مقامات الأولياء، تنشط أيضًا قصص الشفاء من الجنِّ والعفاريت، وينسى الناس جميعًا صراعاتهم على المآذن وفى طوابير الخبز، وفى وسائل المواصلات، ويندمجون في طقسٍ واحد، يغيب فيه العقل لصالح فولكلورٍ متوارث، ويعلي من شأن الخرافة والغيبيات وينقلها من جيلٍ إلى آخر.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +