اختبار الحنين

اختبار الحنين

«من أين أنت؟».. أجيبُ بلا تردّد، أحفظُ اسمها أكثر من أسماءِ عشيقاتي اللواتي تركتُهنّ وتركنَني. هي الوحيدةُ التي لا مجال لتشابه الأسماء معها، الوحيدةُ التي لا دليل على خيانتها أو خيانتي، التي أتمنّى بكامل ذكورتي لو أنني كنتُ أنثى كاملةً لِئَلا أعشق أنوثتها، التي أحفظ عن ظهر جرحٍ دربَ هجرتها وهجرتي، وبكامل ذكوريّتي ابتعدتُ عنها بعد اغتصابها ادعاءَ شرفٍ، خوفًا، أو كي أُبقي على صورتها عذراء!


أُقشِّرُ ذعري صورةً صورةً، وأستعيدُ مشاهدَ الجريمةِ صرخةً صرخةً، دمٌ على وجهها، على يديّ، وعلى السماءِ التي تراقبُ الاغتصابَ الجماعيّ وتبتسم. ذكورٌ من جنسيّاتٍ مختلفة، وأجناسٍ مختلفة، بهائمُ، أنصاف آلهةٍ، آلهةٌ مريضةٌ قرابينها فُروجُ ابتساماتنا، بشرٌ برؤوس حيوانات، حيواناتٌ برؤوس بشر، عسكر، عسكر، عسكر، لباسٌ رسميٌّ معمّمٌ، عمائمٌ على أعضاء تناسليّة، بنادقُ تنمو على خصيات، ثيابٌ مزّقتها الشهوة، الشهوة هنا من طرفٍ واحدٍ سفليّ، حلبةُ مصارعةٍ لجمهورٍ يمارس الاستمناء ويصيح، الصياحُ هنا بديلٌ عن التصفيق غير الممكن!


أَختبرُ الحنينَ، أحاول التذكّر، ولا أرى إلّا الدم. الشوارعُ التي أدمنتها حمراءُ قاتمة، الشجرُ أحرقَ نفسه حِدادًا ونثر رمادَه ليخفي رائحةَ الجثث، الماءُ أحمر، وجهها غارقٌ بدمائه، أذناها مقطوعتان، أنفها ينزف، ثديٌ مفقوءٌ بحربةِ بندقيّة، سرّتها مفتوقةٌ وأمعاؤها مِشنقةٌ لا تَشنق غيرها، سجائرُ مطفأةٌ على جلدها، شعاراتٌ للطاغية على عنقها مكتوبةٌ بالدم، تكبيراتٌ لكهلٍ يشمّر لكي يسابق الطاغية على فمها، وتحوّل جسدها من شعرها إلى أصابعِ أقدامها إلى فتحاتٍ يولَجُ فيها الموت!


أُعيدُ المحاولة! البيوتُ اختفت، الغبارُ ازداد مع ازديادِ الأنقاض. ثم أرى بوضوحٍ أحدهم يحمِل آلة حادّةً ويبدأ بنتف رموشِها وينتشها مع جفونها، وأبناؤها يقتطعون ما استطاعوا من لحمها ليعلّقوه على جدران بيوتهم رايةَ حنين. أَعودُ لاختباره، أبحثُ عن وجوهِ الذين أحبّهم، أراهم أجسادًا بلا رؤوس، تُحشى أجسادهم في رحمها اغتصابًا لهم ولها، مزارع على شكل أكفان، مآذن بلا رؤوس، كنائس بلا صُلبان، نساءٌ بلا أنوثتهن، رجالٌ بكامل انكسارهم، أطفالٌ لا يعرفون من التسمية إلّا اسمها، والقتلةُ.. وحدهم القتلةُ يرقصونَ ويضاجعون بعضهم على جسدها!


أحنُّ.. ولا أحنّ إلى شيءٍ كم أحنّ إليّ في حضنها، ثم أنتفضُ هاربًا من الحلم. وأنا مذ افترقنا أتجنّب الموسيقا لأنّها رجسٌ من عمل الحنين، أتجنّبُ الشعرَ لأنّه برائحةِ جسدها، والكتابةَ التي لا تشبه شيئًا إلّا النزفَ، أسيرُ وحدي بكاملِ فقداني للذاكرة، بكاملِ عطشي للنسيان، وأذهبُ نحو أبعدِ ما يمكن للمّيتِ المنثورِ رمادهُ في كلّ مكانٍ إلّاها، وأموتُ كمن يحيا بدونها!


الحنينُ ليس من الحنّاء، الحنينُ أكْحَل! صوتُ الأمّ إلى ولدها، صوتُ الذي في فؤاده ألم، صوتُ الريح والنسيم، صوتُ العودِ عند النقر، صوتُ القوس عند الإنباض، صوتُ المشتاق. الحنينُ صوتٌ وأنا لم يكن لي صوتٌ، وإن كان لي، لن أقول، ولن أعيد، ولن أنادي، سأصيحُ بكامِل وجع الجريمةِ وعطشِ الدم للدمِ، وخوفِ الهاربِ من موته، وعطشِ الغارق في البحر، وجوعِ القابعِ في الخيمة، سأصيحُ بكامل غضبي، ثأري، ناري، كُفري، حقدي، وبكامل جُبني حينَ هربتُ وهاجرتُ، وبكامل ألمي كما لو أنّني أُنثى مثلها حدث لي ما حدث.. سأصيح: يا ليتها ماتت!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +