البلادُ تميمةٌ لك أن تلوذ بها كلَّما تملَّكك الحزن، وتمرَّد الشوق وتكالبت عليك الدموع: قال أبي وهو يمسك كفي مصافحاً ومودعاً وناقماً على الحرب. والبلادُ حمامةٌ فأَنصتْ لهديلها، وفَتِّش ساقها عن رسائلي كلَّما نظرتَ إلى الأفق: قالت أمي وهي تضم وجهي إلى صدرها، وتَخنِق دمعها لِئَلا ترى انهزامي أمامَ ضعفِ وداعها، وجبروتِ أنينها.
أدرتُ ظهري للعويل الذي ملأَ عيونَ أخواتي، التردد الذي يطلقون عليه اسم الهزيمة لم يفارقني، كان القلب لا يفتأ يتلفتُ، ولوهلةٍ سرى الوهن في ركبتيَّ غير أني أتقنت دور الشديد القوي، الدور الذي ألبستني إياه الحياة بحكم الرجولة ومقتضى الحال. لم أبكِ أمامهم، لكنّ سكاكين العويل كانت تنغرس في الروح، سكاكين تحمل ملامح البعد والضعف والفراق الذي لن يكون بحالٍ من الأحوال واضحَ المعالم.
رافقتني تلك اللحظات وقطعت معي حدود البلاد، إنها إرث المسافر في ثياب لاجئٍ، لا يدري من القادم سوى أن الحنين سيكون زوادةً لن تنتهي. أنا لاجئٌ، يكفي أن تقول ذلك لترى معالم نظرات الشفقة وتطييب الخاطر ممن لا يفقه من كينونتك سوى ضعفك وانعدام حيلتك أمامَ ما جدَّ عليك من ظروف الحياة، في بلادٍ تراك مشرداً تتسول الأمن والكرامة، تحاكي نفسك: كنتُ عزيزَ أهلي، وسيّد مكاني ولحظتي، كنت ذلك الذي يقول فيلتفتُ الناس إلى حديثه، ويمشي عارفاً بخبايا المكان وعناوين البيوت وأسماء الشوارع. كنتُ ذلك الذي يحفظ الطرق المؤدية إلى لحظات الفرح ويشاركُ في صنعها، وذلك الذي يعرف درب المقبرة ويشارك أهل البلاد أحزانهم. وها أنا ذا، لا جيرانَ يبادلونني التحية بمهابة الندِّ، ولا دروبَ أعرفها تأخذني نحو منازل الرفاق وسهرات الأساطيح. حتى النساء الجميلات اللواتي يُشبِهنَ التماثيل التي كانت تُزيّن واجهات محلات بيع الألبسة النسائية، وإكسسوارات الملابس الداخلية، حتى الجميلاتُ لا يشبهن بنات البلد اللواتي كنتُ أتفنن في ملاطفتهن فيعلو وجناتهن الوردُ والخجل. لاجئٌ أنا، أتلعثمُ حين أركب وسائط النقل، وأتلعثم حين أقف أمام الباعة لدفع فواتير ما اشتريته من مواد لا أعرف أكثرها، ويأكلني الخجل وأنا أتسلَّم مال المساعدات متوهماً، أو متأكداً من النظرة الدونية التي يرمقني بها المحاسب بداية كل شهر. لاجئٌ يعطف عليه المواطنون ظاهرياً، وضمنياً يلعنون تطفُّله ويُحمِّلونه مسؤولية ما يدفعونه من ضرائب. لاجئٌ يفرح حين يلمح وجه لاجئٍ مثله، أو يُمثِّل الفرح لأنه ليس الغريب الوحيد.
يخطرُ لي أن أتعرى من كل هذي الخواطر، وأطفقَ باحثاً عن فرحٍ عابرٍ، فتزجرني التميمة التي أحملها، ويكسر ظهري هديل الحمام الذي لم يهجع مذ عبرت الحدود، فألوذُ بعالمٍ يلوح لي من شاشة، عالم يحمل صوت أمي وصلواتها لي: «الله يحميك»، ويُعيدني طفلاً أتكوّم في حضن صوتها وهي تهدهدني: «يالله تنام يالله تنام».
أن تجهشَ فلا تجد من يفهم أنينك يعني أنك لاجئ، أن تحاول النسيان لبرهةٍ فتجيش الذكريات يعني أنك لاجئ، أن تنامَ حالماً بغدٍ يحمل خطواتك نحو بيوت الأحبة يعني أنك لاجئ، أن يعصف بك الحنين فلا تجد سبيلاً لقتله يعني كذلك أنك لاجئ، أن تحتمي من بردِ المشاعر حولك بشمسٍ خبأتها قبل أن ينتابك الرحيل، شمسٍ كنت تراها في دفء صوت الحبيبة، وكنت تخزِّنها حطباً لمواقد الشتاء الجميل، ذلك يعني بلا أدنى شك أنك لاجئ.
أن تحمل هذه الصفة، فذلك يعني أنك الآن تغار من مواسم هجرة الطيور، وتتمنى لو أنك طائرٌ صغيرٌ لا بُدَّ يعود. أنا الآن لاجئٌ يرى البلاد التي هجرها تذوي في البعيد البعيد، وهو يُردِّدُ على قلبه مقاطعَ من قصائد قديمة، ويطبطب عليه ليغفو قليلاً قليلاً: «بعد غدٍ تعود، لا بدّ أن تعود».