في سيرِ الرّوح

في سيرِ الرّوح

نمشي معاً


- «فيينا، فيينا، فيينا، نو بودابست»، يصرخُ شابٌ مبتسماً كمن وجد خارطةً لجزيرة الكنز!


- تسأل صحفيّةٌ دون أن يظهر وجهها: «do u know how many kilometers?».


- يردُّ عليها شابٌ يستعين بعكّازين للمشي: «لا!».


هكذا يبدأ الفيلم الّذي أنتجه صحفي الغارديان جون دوموكوس، ومَنتَجَهُ ليستمرّ سبع عشرة دقيقةً، حيثُ قرَّرَ دوموكوس أن يُرافق «مشياً» عائلةً سوريّةً في درب الجلجلة، من هنغاريا مروراً بالنمسا وصولاً أخيراً إلى ألمانيا.


يَظهرُ في الفيلم خليطٌ مهيبٌ من الخوف والأمل، المحبّة والغضب، الإصرار وقلّة الحيلة، الجوع والتعب والنعس والاستنزاف، الفقر والوجع. خليطٌ يجعلك تحسد نفسك وتحبس أنفاسك وتتساءل بذهول، ماذا اقترفنا لاستحقاقنا هكذا تجربة!



درب الآلام- درب الآمال


 في كلّ مرّةٍ أُعيد فيها الفيلم، وأرى النّساء المزركشات، الملوّنات، الذاهبات في المجهول، الرّاحلات نحو البلاد الواعدة، نحو بلادٍ تعطيهنّ حفنةً من الأمان، وكمشةً من راحة البال، كلّما رأيتهنّ أرسم في رأسي المتعب صوراً لبيوتهنّ!


هُنّ نساءٌ سوريّات بأسماءٍ كاملة، ولبعضهنّ ألقابٌ اكتسبنها من فلذات أكبادهنّ. هنَّ نساءٌ شاهقات، داعبت الأنوثة بيوتهنّ ومشينَ في دروبِ الأمومة بكمالٍ أو خوف، لهنَّ عطرٌ مفضّل، يتقنَّ وضع أرواحهنّ على نار المطابخ لصُنِع وجبةٍ للأولاد. نساءٌ سوريّات شقيّات، يرقصن رغم الفزع، في صدرهنّ تتقافز ذكريات المراهقة، وألبومات الصور، ووداعاتٌ لم يحظينَ بها، ربّما لأن القناص كان أسرع، أو أن الصاروخ حطّ في منزل الأحباب قبل فترةٍ وجيزة من اختيار المهجر.


هُنَّ الناجيات، الّلواتي تُرِكن بذاكرةٍ ترفض الصدأ، وإرث الموتى، كلّ الموتى وحكاياتهم.



المسير- سيرُ الروح


يحملُ أحد الشباب شابّاً آخر على كتفيه، وبدوره هذا الآخر يصرخ بالجموع الغفيرة المرابطة في شوارع هنغاريا مستخدماً مكبّراً للصوت: بدنا نمشي لنوصل حدود النمسا!


الكلّ يستجيب، يلملمون ما تيسّر لهم مما حملوه وبقي معهم في اجتياز بحور الظلمات، يرتسم الأمل من جديد على الوجوه، ويبدأ المشي.


يتعيّن على السائرين أن يقطعوا مسافة مائة وثمانين كيلومتراً ليصلوا إلى حلمهم، إلى مكانٍ لا تعادُ فيه تجربتهم الذليلة المؤلمة التي اختبروها في المجر، إلى النمسا.


تظهرُ سيّدتان هنغاريّتان في المشهد، إحداهنّ تنظرُ بذهول أما الأخرى فتغطّي فمها وتغطّ في بكاءٍ مرير!


- «سأكونُ مسروراً بالمساعدة»، يقول أحد العابرين بعد أن ركن سيّارته عارضاً خدماته بنقل ما يتيسّر له من السائرين، لكنّ الشرطيّة المجريّة تعتذر منه، لأنهم لا يستطيعون فعل شيء.


سيرُ الرّوح هذا، لا يليقُ به أقلّ من هكذا اسم، ففيه ينفتح القلب على مواقفَ نبيلة، وعبارات مهما حاولنا تجاهلها فهي تنخر أذهاننا كأغنيةٍ نجهل لماذا نعيد تكرارها.


حين توقِفُ سيّدةٌ شابة أحد الماشين قاصدةً المساعدة أيضاً، تعرضُ عليه أن يبقى برفقة عائلته معهم في هنغاريا، يرفضُ بانكليزيةٍ بالغة الوضوح واللطف، قليلة الأخطاء، مليئةٍ بالثقة: هؤلاء هم أهلي، ما يحصل لهم سيحصل لي، أنا أنتمي لهم!


- «لكنّني أشعر بالقلق على الأطفال!»، تضيفُ السيدة الشابة قبل أن يباغتها الشاب بجوابه البديهي، ويقول إن أطفاله ليسوا أفضل من الأطفال الآخرين المشاركين في هذا المسير!


- «أعلم ذلك...»، تَختِم السيّدة الشّابة!


يتابع الفيلم الّذي يعجّ بلحظاتٍ مشابهة، ويرصدُ آراءً للعديد من الأشخاص أو المواطنين الّذين يُجمِعون في مداخلاتهم على أن مساعدة هؤلاء واجبة، يجمعهم أيضاً تلك النظرة الخائبة الحزينة، وشعورٌ بالألم لم يكن من الصعب استنباطه مهما حاولوا نقل رأيهم بموضوعية.


«خسرنا كلّ شيءٍ في بلدنا، مدارسنا، بيوتنا، جامعاتنا، كلّ شيءٍ حتى الهويّة».


يقول دوموكوس: «بعد خمس ساعات من المشي المتواصل، أخيراً حصل محمود على توصيلة!»، ومحمود هو الشاب نفسه الذي يمشي بعكازين بسبب إصابةٍ في الحرب على حدّ تعبير دوموكوس.


لم أجد مفرّاً من البكاء، كلُّ هؤلاء الّذين وقفتُ فاغرةً فمي أمام معاناتهم، وأمام جمالهم، لن يكونوا أكثر من رقمٍ في بوليصة اللجوء، وسهماً يتراوح سعره في سوق قبول اللاجئين! لكنّني أشعرُ بخسارةٍ شخصيّة، خسارة كل أولئك الشباب والشّابات، هؤلاء الفارّين من رعبهم، الخائبين، والمتكئين على بعض الأمل.


لا يُسكِتُ هذه الجنازة في رأسي سوى عبارةٌ واحدة: لو كانت أرضهم أكثرَ أماناً، لما اختبروا خطرَ البحر.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +