ماذا لو كنتَ «عمرو»؟ أغمض أكثرَ من ذلك بقليل، سترى طفلًا في الثانية عشرة من عمره، يركضُ نحوَكَ، يحملُ جبلَ العتبِ على ظهرهِ، ويسوق ظلالَ وجعٍ يكبرهُ بمرّات، أغمِض أكثر، لا تحتاجُ لعينينِ معطّلتين في وضحِ النّهار، السماءُ صافيةٌ بما يكفي لترى الحوّامةَ تحومُ حول فريستها، الشمسُ واضحةٌ تمامًا ليبتعدَ عنها الشهداءُ وهم يصعدون، الهدوءُ سقطَ كما بعد المجزرة بدقائق، المجزرةُ حدثٌ متكرّرٌ لا نهائيّ، ولا أحدّ يُعربِد في حضرةِ الصمتِ سوى القاتل وحده احتلّ السماءَ وسكبَ موته مطرًا وانتشى!
ماذا لو جنح الموتُ للحياةِ قليلًا، كنتُ سأكونُه، طفلٌ بلونِ الماءِ قبلَ هطولِ الدم، خفيفًا يركضُ قبلَ أن تُثقِلَهُ أشلاءُ أصدقائه، يعشقُ "حلاوة الجبن" أكثر من أمّه، ويفتحُ صوتَه الذي افتقدتْه أحياءُ حمص منذ الحادثة، «عمرو» الذي فقدَ صوتَه وذاكرته وما يمكنُ لطفلٍ في عمره أن يفعله، وامتهن الضياع في الصمت، كانَ صوته يشبه كلّ أصوات الأطفال التي لا هويّة لها، كان بملامح تشبه أطفالك وتشبهك أيضًا قبل أن يقترب الموت منك أكثر، وكانَ هذا قبل أن تبدأ السماءُ بإرسال هداياها على شكل براميل، في يومٍ ما من العامِ الثاني للانفجارِ السوريّ، وكان قد تعوّدَ أن يقنُصَ الطائراتِ بعينينِ بريئتين ليؤمّن مكان اللعب، ولم تكن وقتها في رأسِه أية شعرة بيضاء، كلّ هذا الشعر الأبيض أتى لاحقًا.
أنا عمرو، ولك ألّا تصدّق، أنا لم أصدّق بعدُ، كيفَ لابن اثني عشرَ حزنًا أن لا يشيب؟ وكيفَ لابن عاصمةِ الموتِ أن يبقى بذاكرته؟ فقدانُ الذاكرةِ هو الخلاصُ الوحيدُ لأعودَ كيوم ولدتني أمّي، حجٌّ للتكفير عن الوجع، وتطهيرٌ لكلّ الجثث التي عَلِقت بمخيّلتي وصبغت جدرانَ حلمي بالأحمر والأسود، فقدتُ صوتي لا لعدم قدرتي على النطق، بل لأنّني قرّرت أن أصاب «بداء الحكمة»، أنا عمرو الخارج من موتِه بلا صوت، والخارجُ من بُكمِهِ بلا أبجديّة، والخارجُ من أبجديّته لفطرةِ اللعبِ ولم أصل، أنا عمرو الذي كان ينتظرُ هديّةً لا يعرفها من شخصٍ لا يعرفه، الهديّة التي تأتي بالحلم فقط، التي تلبس لونًا ورديًا وشريطًا أزرقَ، الهديّة ذاتها كانت حقيقةً يومها إلّا أنّ الأطفال –أصدقائي- سبقوني إليها وفتحوها فانفجرت بهم وسقطت أشلاؤهم فوقي كقطع السكّر في الأعراس، صرتُ ألملم أصابعَهم وقطعَ لحمهم كما لو أنّها قطع لحمي، وكنتُ أبحثُ عن ملامحهم كما أبحث عن ملامحي، الأطفال اختفوا أجسادًا وتحوّلوا إلى قطعٍ متناثرةٍ لا معنى لها لوحدِها! ما قيمة هذه الأشلاء إن لم تجتمع؟ كنتُ أركضُ في كلّ الاتّجاهات بذات الوقت، أحثُّ يدًا مقطوعةً على الحركة، القدمُ التي كانت تركلُ الكرةَ فقدتْ فعلها، الدمُ أعمقُ من أحمرهِ وأشدّ حرقًا، والغبارُ يسعى بكلّ ما يستطيع للتستّر على الجريمة!
الانفجارُ لم يدم طويلًا ذهب صوته وأخذ معه ثلاث أرواح ذهبتْ بلا أجسادها كاملةً، وأخذتْ معها صوتي وذاكرتي، أنا لا أقصّ عليكَ ما أذكر، بل ما قيل لي لاحقًا!
أيُّ قاتلٍ ذاكَ الذي يجعلُ اللغمَ على شكلِ هديّةٍ لطفل؟ هل بحث جيّدًا في أطفاله عمّا يحبّوه وجعل ألوانهم المفضّلةَ على هذا الشكل؟ هل تخيّل المشهدَ وهو ينظرُ في عينِ أطفاله؟ ماذا لو فعلَ أحدهم ذات الشيء بأطفاله؟ نجا عمرو بدونِ أصدقائه وذكرياته، ووصل إلى أحد مخيّماتِ اللجوء، وكانَ أوّل ما فعله هو اللعب، فقد ذاكرته ولم ينسَ كيف يلعب كرة القدم، لم يعد النطقُ له بسرعة، لكنّه عاد، أمّا الشعر الأبيض فلم يذهب، ظلّ شاهدًا على المجزرةِ، وعمرو يكبرُ وهو قد وُلد بحجم أكبر وذاكرةٍ أقلّ موتًا!