كانت سهير تشرب المتة في استراحة الظهيرة، بين مجموعة من المدرسات خريجات المعهد التربوي، وقد كنا نسميهن «آنسات» في المدرسة، ورفيقات في معسكر طلائع البعث، سألتني عن اسمي فأجبتها، نظرت إلي بعين نارية، «هيك الرفاق يقدموا أسماءهن!»، كنت قد نسيت الشيفرة، علي أن أتراجع خطوة، أضرب الأرض بقدمي اليمنى، وأقدم التحية العسكرية، ثم أصرخ: الرفيق الطليعي عمر يوسف سليمان، الفرقة الرابعة، الوحدة الثالثة، ثم أعيد يدي إلى مكانها، وأنظر مستكشفاً مدى رضا الآنسة سهير، تبتسم وتشف من مصاصة المتة ما تبقى في الكأس، «برافو يا رفيق».
بعد الاستراحة، كان الرفيق أحمد يهددنا بسهرة صبَّاحية نزاول خلالها التدريبات العسكرية عقوبة لنا، ذلك أننا لم نردد الشعارات بصوت جهوري يليق بطلائع البعث، وما كان يزيد من جنونه أن أحد الرفاق الطليعيين ضاع منذ ساعتين، وبعد طول بحث وجده الرفاق في الحمام، كان يعاني من ألم في الأمعاء بسبب الطعام، لأن معدته لم تكن معتادة على الطعام البعثي، لهذا قرر الرفاق نقله إلى مشفى الأسد الجامعي.
كنا نعلم ونحن في سن العاشرة أن شيئاً آخر يغضب الرفيق أحمد، ففي كل صباح، بعد أن نتناول الإفطار، كانت الرفيقة سهير تجلس في الشمس على كرسي أزرق وتطالع برنامج اليوم، كان شعرها الأشقر يتدلى من الخلف تحت قبعتها الحمراء، نظرات الرفيق أحمد لم تكن تغادر عنقها الأبيض الذي يتحرك ببطء في الضوء، لكن كان عليه أن يعير انتباهه إلينا نحن الرفاق الصغار لكي يضبط صفنا تمهيداً للبدء بدرس «التوجيه والتعبئة»، ولأن واجبه القومي لم يتفق مع نزواته الجنسية فقد كان يعاني من اضطراب يذبح مشاعره، مرة اقترب من سهير محتجاً بأنه يبحث عن قلم لتدوين بعض الملاحظات، لكن الرفيقة ردت دون أن تلتفت إليه بأن الأقلام كثيرة في غرفة الإذاعة، عاد أحمد يبحث عن رفيق طليعي ضحية يفجر به غضبه، ولسوء حظي كنت أمامه، كان الفولار الخاص بي مربوطاً كيفما اتفق، فقد أضعت تلك القطعة العظمية التي تعقد الفولار، والتي كنا نسميها مجازاً «الجوزة»، غسَّلني الرفيق أحمد بالشتائم، فأجبته «الجوزة انسرقت مني يا رفيق، وما لي ذنب، صدقني يا رفيق، صدقني اليوم رح اشتري جوزة، آسف رفيق»، أجابني أحمد وعيناه على سهير: تضرب إنت والرفيق.
كان ذلك في معسكر الطلائع، الذي يقام كل صيف قرب مدينة الدوير في ريف دمشق، حيث تُنصب الخيام على سفح جبلي، وعلينا أن نهبط كل مساء إلى باحة المعسكر من أجل حفلة السمر، بعد يوم طويل من التمرينات الرياضية والدروس البعثية، نحيي العلم، ثم ننشد أغنية «للبعث يا طلائع، للنصر يا طلائع، أقدامنا حقول، طريقنا مصانع»، وقبل أن تبدأ الحفلة لا بد من خطاب يكسر روتين الأغاني البعثية، هكذا نستمع إلى صوت حافظ الأسد من الإذاعة ونحن وقوف كالأصنام «الوطن غالٍ، الوطن عزيز»، ثم يصعد قائد المعسكر الذي كانت لديه هواية في نظم الشعر، ولكي يروح عن الرفاق والرفيقات يبدأ بقصيدة مطلعها «يا حافظ العهدِ قد أرجعتَ عزَّتَنا»، فقد كان ذلك في التسعينيات، وحافظ الأسد ما زال رفيقاً أميناً مناضلاً، قبل أن يصبح «خالداً» إثر موته عام 2000.
في حفلة السمر، عندما تبدأ الدبكة، ومن أجل أن نتفادى بطش أحمد، كان أحد الطلاب يمسك كف سهير بيده اليسرى، وبكف أحمد باليمنى، يدبك قليلاً ثم يغادر بعد أن يشبك كفيهما، إلا أن سهير المتيقظة لواجبها النضالي، كانت تغادر الدبكة مسرعة، وتتجه إلى المنصة مدعية أنها نسيت شيئاً ما، تتحدث مع مدير فرع الطلائع في ريف دمشق، فقد كانت تحاول «تطبيقه» على الرغم من أنه متزوج، بينما أحمد يخبط الأرض في دبكة جنونية ووجهه يكاد ينفجر على أغنية «تسلم للشعب يا حافظ، أمل الملايين يا حافظ، عليت الراية يا حافظ، وبنيت المجد يا حافظ»
ليلاً، أثناء صعودنا إلى الخيام، وظهورنا مقصوفة من التعب، كانت الأضواء الصفراء تنعكس على ملابسنا الصفراء الموحَّدة، والتي طُبع عليها وجه حافظ الأسد، صمتٌ مرعب لا يقطعه سوى توجيهات أحمد الصارمة، وكل رفيق منا ينتظر دوره في صفعة أو شتيمة، نصل إلى خيامنا، نخلع صورة القائد، وما في بالنا سوى قصص أحمد وسهير، ناسين كل ما يتعلق بالرفيق المجرم حافظ الأسد.