قبلات المدافع الحربية

قبلات المدافع الحربية

تتخذُ الحروب والمعارك بعد انتهائها طابعاً مختلفاً عما هي عليه في الحقيقة، طابعاً يرسم ملامحه المنتصرون بألوانٍ زاهية، ويتذكره المغلوبون بغصةٍ قد لا تغادر صدورهم، فيورثونها لأحفادهم. فالحرب حربٌ مهما تزينت بالتسميات، ومهما علت فيها أصوات الطبول على صليل السيوف وطلقات المدافع. ولا شك أن كلمة «حرب» لن تستطيع أبداً أن تغطي الآلاف من قصص الضحايا، فلغة الإحصائيات لا تؤلم عادة كما تؤلم لغة التمحيص، وما مفردة الحرب إلا مفردة مندرجة تحت سقف الإحصائيات الضخمة.


بالطبع لن تشعر بغضاضة إذا كنت تتناول الآيس كريم بينما تتابع على محطة تلفزيونية فيلماً وثائقياً من أفلام الميزانيات المحدودة، يتناول سيرة بطلٍ شعبي ما، حصد بيده اليمنى في حربه الأولى ما يعادل سكان مدينتك الحالية الوادعة، وبيده اليسرى في حربه الثانية ما يعادل سكان مدينة أخرى، لأن الحرب هنا تحولت بفعل فلترة الزمن إلى مجرد سيرة فقدت دسم الحقيقة وأبقت على كربوهيدرات الأرقام الزائفة. ولن يُفلح مثل هذا الفيلم في بلورة غصة إنسانية حقيقية تجتاح كيانك وتحرضك على مناهضة الظلم، كما قد يفلح في ذلك مشهد من مشاهد أفلام «ريتشارد غير» الغرامية، كالفارس الأول في كاميلوت الذي خان مليكه آرثر وعشق زوجته الفاتنة فبادلته الحب بحب وطارحته الغرام، ثم انتهى كل ذلك بغفران ملكي نبيل من الملك المسامح الذي سيَهَبُ سيفه للعاشق الخائن، كما وهبَ زوجته في سبيل انتصار كاميلوت في حربها ضد الأعداء الخونة.


كانت المعارك تسمى بأسماء أماكن وقوعها سابقاً، كتسميات تقشفية فقيرة الخيال، في حين صارت الآن تكتسي بأثواب مزركشة ومطرزة من المفردات الملونة والمبهجة أحياناً، فأيّ عبقرية في تسمية معركة الخندق بالخندق، أو عمورية بعمورية، أو القادسية بالقادسية أو اليرموك باليرموك، أمام العبقريات الحديثة التي استُحدثت لتناسبَ عصر العولمة. بينما سمّى صدام حسين معركته الخالدة ضد الأمريكان «بأم المعارك» في إشارة إلى أنها ستكون المعركة الأهم في تاريخ العرب الحديث، كان «ثعلب الصحراء» الأمريكي لا يزال يحتل آبار النفط ويصطاد الدجاج العربي في «قِنانه» المختلفة عبر الجنوب والشمال والشرق والغرب. صرنا نترقب لاحقاً أسماء المعارك القادمة كما تعودنا على ترقب أسماء الزلازل والأعاصير الغاضبة، فقطفنا في «قانا» اللبنانية ما أطعمتنا إياه إسرائيل من عناقيد غضبها، ثم شربنا نبيذ الخسارة على أرواح الضحايا. بين جمال رواية «عناقيد الغضب» للكاتب الأمريكي «جون ستاينبك» التي فاز من خلالها بجائزة بوليتزر 1940م، وقباحة ما رأيناه من مجازر بسبب العملية العسكرية المذكورة، كان التباين صارخاً. ويعرف أي قارئ أن هذه الرواية تعدّ من أكثر أعمال ستاينبك شهرة، وفيها يصف حال ملايين الأمريكيين الذين دُمِّرَت حياتهم خلال كارثة الكساد الاقتصادي الكبير الذي اعترى أمريكا، والجفاف العظيم الذي داهمها في الثلاثينيات. هكذا سيُستَنسخ بمكرٍ شديد اسم الرواية ليلصق بعملية عسكرية لا يمكن أن تعتبر في أحسن أحوالها أكثر من جريمة نكراء، هكذا باتت التسميات التزيينية لقباحة المعارك بمثابة أغطية تمنع مرور كثيرٍ من الشحنات الوجدانية إلى محبذي الحروب ولغات الإحصاء، الذين قد يُبكيهم منظر قبلةٍ على شاطئٍ كاريبي، ولا يثير جزعهم إحصائيةٌ قد تقول: «تسببت الحرب بهجرة ملايين البشر، ومقتل عشرات الألوف، واختفاء مئات الآلاف الآخرين»، إن أنت أطلقت عليها مثلاً اسم «قبلات المدافع الحربية».

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +