2015-09-11 12:56:33
لم تكن السخرية من تمثال الأسد (سابقاً) في السويداء، والملقب «خمسة شاورما»، حِكراً على المعارضين وشباب الحراك، بل كان يأتي التهكم حتى من مؤيديه الخُلَّص. فِطرةُ الناس لا تُخطئ مهما تعقدت الداوعي الأمنية، ومهما اشتدت حلكة الخوف، إذ تكفي نظرةٌ سريعة على خارطة الاعتقالات والتضييق والمحاربة والنفي، وصولاً إلى التصفيات الجسدية، التي قام بها نظام هذا التمثال في السويداء منذ السبعينيات، ليتأكد المرء أنه لا توجد عائلةٌ واحدةٌ ليس فيها اسمٌ لابن أو قريب، باتَ مجرد ذكر اسمه يشكل خطراً على باقي أفراد العائلة.
كغيرها، عانت السويداء من قهر الدولة الاستبدادية، وتسلُّط الأفرع الأمنية، ولم يكن لشبابها طريقٌ غيرُ الهجرة، عندما تفشل محاولات الوظيفة، وحتى إن لم تفشل. وكغيرها من مدن الأطراف، تُرِكت طوال العقود الأربعة الماضية على ما يتحنَّن به الله عليها من أمطارٍ للمواسم الزراعية، دون أن يُنشأ فيها أيّ صناعةٍ أو بنيةٍ تحتية، بل إن الصناعة الوحيدة المسموح بها هي صناعة المرتزقة والأزلام، والفرق الحزبية وكَتَبَة التقارير. إلى درجة أن ضابطَ أمنٍ استدعى ذات مرةٍ أحد المخبرين إلى مكتبه، وأَسمَعه سيلاً من الشتائم، ومَسَحَ بكرامته الأرض، لأن ذلك المخبر كان قد كتب تقريراً بأخيه. ربما لم يكن الضابط يريد لأحدٍ أن يتفوق عليهم بالحقارة.
كان السفرُ هاجسَ الجميع في السويداء، والكل يُرتب حياته ومخططاته بناءً عليه، فَبين عامي 1991 و1993 سافر مئتا شابٍ إلى فنزويلا من قريةٍ واحدة، فقط. وكأنَّ المعادلة هي الهجرة طالما أنَّ هذا التمثال قائمٌ في مكانه، والعملُ أو الوظيفةُ حلٌّ مؤقتٌ ريثما تنجح إحدى محاولات الإفلات إلى الخليج أو فنزويلا أو أيّ مكان.
وبحكم تموضعه في قلب المدينة، فإنك ستمرُّ بالتمثال كلما احتجت إلى ورقةٍ أو معاملةٍ ما، ولم يكن يسلم مع كل مرورٍ من شتيمةٍ حتماً, شتيمة لو سُمِعَت لأودت بصاحبها إلى التهلكة. عقودٌ طويلة من القمع والإفقار والترحيل تكثِّفها تلك الكتلة الواقفة في ساحة السير، بيدٍ ممدودةٍ مفتوحة الأصابع كأنما تقول: سأقتلكم حتى آخر واحد فيكم. تلك التي أول ما كُسرت من جسد التمثال ليلة الرابع من أيلول الماضي، وذاتها اليد التي عُلِّقت بها أواخر الثمانينيات علبةُ سمنٍ فارغة، إشارةً للاحتجاج على أزمة نقص المواد الغذائية الحادة ذلك الوقت، الأمر الذي أوصل العشرات إلى فروع التحقيق. لكن ليس بعد الآن، فالسويداء قبل الرابع من أيلول، ليست هي السويداء بعد الرابع من أيلول. وها هي الأيام تدول، والتمثال تتقاذفه الأرجل، بينما الحناجر تهتف (كرامة للأبد... غصب عنك يا أسد) في مشهدٍ طال انتظاره، وجعل كثيرين يعجزون عن النوم في تلك الليلة، بانتظار الصور بعد انقطاع الاتصالات عن المحافظة. كانت اللهفة كبيرةً لرؤية ساحة السير خاليةً ونظيفةً من كتلة القذارة تلك، وقليلون جداً هم الذين لا يستشعرون رمزية تلك اللحظة، عندما يبصق الناس في وجه الخوف والقذارة والاستبداد وأقبية التعذيب، هكذا على الملأ وفي وضح النهار.
عندما حَطَّم ثوار حوران تمثال الأسد في سنة الثورة الأولى في درعا، كثَّف الأمن في السويداء الحراسة على تمثال الخمسة شاورما، وكانوا محقّين فعلاً، فالأمنُ السوريّ الذي يعرفُ عددَ أنفاسِ السوريّين في اللحظةِ الواحدة، لا بدّ أنهُ كانَ يعرفُ المثلَ الشعبيّ المُتداولَ في مناطقِ الجنوب السوري:
إنْ حَلَقْ جاركْ ... بلّ دقنكْ!
الوسوم