ربّما يتذكّر السوريون، الذين عايشوا العقد الأول من الألفية الثانية، وتحديداً بعد انقضاضِ السلطة على ربيعِ دمشق، وافتضاح نيّة نظام الأسد في إبقاء سوريا تحت رزح النظام الأمني، ربما يتذكرون كيف كانَ يتمُّ تناقلُ أيّ عملٍ فنيّ أو أدبيّ وكلّ ما يمثّلُ مناهضةً للنظام بسريّةٍ تامّة، في حالةٍ مماثلةٍ لما حدثَ في فترة الثمانينات من القرن السابق.
كان من بين تلك الأعمال التي تمّ تناقلُها بسريّةٍ تامة، فيلم «طوفان في بلاد البعث» للمخرج الراحل عمر أميرلاي، الفيلمُ الذي يوجّهُ نقداً لاذعاً لنظامِ «الأسدين» تهامسَ باسمِهِ المهتمونَ والمعارضون على السواء، ولكنّهُ كانَ فاتحة ليكتشفَ قسمٌ كبيرٌ من السوريين اسم «أميرلاي»، فالراحلُ الذي ولدَ عام 1944 في منطقة «الشيخ محي الدين» الدمشقية، لعائلةٍ ذات أصول عثمانية وخليطٍ شركسيّ كرديّ تركيّ وعربيّ، كانَ قد غادرَ سوريا مبكّراً إلى باريس، حيثُ درسَ المسرحَ فيها 1966 – 1968، وكانت أولى محطّاته وبداية العلاقة الاحترافية بينه وبين الكاميرا منها، إذ صوّر انتفاضة الطلبة عام 1969، تلك التي لربما كانت واحدة من أكثر المحطات المؤثرة في مسيرته الفنية لاحقاً، ورغبتهِ الدائمة بالالتصاق بقضايا الناس وهمومهم البسيطة. وهوَ أمرٌ آخر وأساسيّ يجعلُهُ عرضةً للتغييب في سوريا. ما يجعلُ معرفة اسمهِ تبقى على نطاقٍ محدود.
عاد المخرج الراحل إلى سوريا سنة انقلاب حافظ الأسد واستيلائه على السلطة 1970، وصوّر فيلماً عن مشروع «سدّ الفرات» الذي كانَ يعتبرهُ مثل كثيرٍ من السوريين واحداً من أكبر مشاريع التطوير في بلاده. لكنّه سرعانَ ما اكتشفَ الكوارثَ التي خلّفها بناءُ السدّ على القرى المجاورة له وسكّانها، في فيلمه «الحياة اليومية في قرية سورية» عام 1974. قدّمَ الراحلُ تجربةً مختلفةً في السينما السورية، من خلال تصوير الواقع المُعاش بلا أي عمليات تجميل، ورفد المكتبة السينمائية بمجموعةٍ كبيرة من الأفلام التسجيلية: الدجاج (1977)، عن ثورة (1978)، مصائب قوم (1981)، رائحة الجنة (1982)، الحب الموءود (1983)، فيديو على الرمال (1984)، العدوّ الحميم (1986)، سيّدة شيبام (1988)، شرقي عدن (1988)، إلى جناب السيّدة رئيسة الوزراء بيناظير بوتو (1990)، نور وظلال (1994)، المدرّس (1995)، في يوم من أيّام العنف العادي، مات صديقي ميشيل سورا (1996)، وهنالك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدّث عنها المرء (1997)، طبق السردين (1997)، الرجل ذو النّعل الذهبي (1999)، وأخيراً كان فيلمه طوفان في بلد البعث (2003).
حظيت أفلامُ الراحل بشهرةٍ عالمية واسعة، وعُرضت في مهرجانات سينمائيةٍ كبرى تختصّ بالسينما التسجيلية، إلّا أنها كانت ممنوعةً من العرض في سوريا لأسبابٍ رقابيّة، في بلادٍ كانَت المخابراتُ فيها مُقحمةً في كلّ تفصيلٍ صغير من حياة الناس. لدرجةِ أنّ «أميرلاي» أرسلَ في العام 2005 رسالةً ساخرةً لصديقه الكاتب والصحفي الشهيد «سمير قصير»، يستنكرُ فيها ممازحاً هجومَ الأخيرِ على النظامِ السوريّ واتّهامَه بأنهُ يكتمُ أنفاسَ السوريين، أثناء ما عُرفَ بانتفاضة الاستقلال في لبنان والتي كان «سمير قصير» واحداً من أبرزِ قادتها. في وقتٍ كانَ النظامُ السوريّ قد أصدرَ مرسوماً يُتيحُ للسوريين مزاولة حوالي 67 مهنة كانوا محرومين منها، من بينها تأسيس الجمعيات السكنية وإقامة المعارض الفنية والأسواق التجارية، ومنح تراخيص لمهن مثل جليسات الأطفال، وفتح المكاتب العقارية ومكاتب السياحة والسفر....إلخ!
تركت رسالة عمر أميرلاي أثراً بالغاً لدى سمير قصير، فكتبَ على إثرها مقالهُ الشهير «الخطأ بعدَ الخطأ»، ونشرهُ في جريدة النهار اللبنانية بتاريخ 27/5/2015، حيثُ كانَ آخرَ مقالات سمير قصير، قبلَ أن تطالهُ يدُ الاغتيالِ وتوقف حياتهُ، مثلما أوقفت حياةَ مئات آلاف السوريين قبل ذلك وبعده.