تاريخُنا الملبوس

تاريخُنا الملبوس

لستُ أكتب التالي لأنني اشتريت الأسبوع الفائت قمصانًا داخليةً لأول مرة في حياتي، ولا لأني لم أعرف قياسي عندما سألتني البائعة، ولا لأنني أشتاق إلى الغسيل الأبيض الذي كان يتلون بالأحمر أو الأزرق عندما  تُغافل أمي قطعةٌ من وجبة الغسيل الملونة وتبقى مختفيةً وملتصقة بالحوض المعدني. بل لأني بردانٌ، وتكسوني ملابس جديدة لا أعرف صاحبها ولا تحمل جيوبها ذكريات وقصاصات وأوراقًا ثبوتية أو وصول أمانة  يجب أن تعود الى أصحابها في أقرب لقاء تالي.


لسنا فقراء، ولكن حبًا بالتواصلِ أو استخسارًا لرمي الملابس، الأهم من ذلك كلّهِ تناقل التاريخ بشيء يشبه تمامًا التاريخ الشفهي  المسموع أوالمكتوب والمرئي، شيء يجعلنا نستقبل الملابس من العائلة والأصدقاء أو نطلبها صراحة دون خجل، فلا شيء يقارن أمام معطف أبيك أو قميص صديقك أو حذاء أخيك.


على كل حال نحن نحبُّ أن نضع أنفسنا في أحذية من نحب لنعرف مشاكلهم كما يقول المثل الإنكليزي.


وبالعودة إلى القمصان الداخلية، فنحن عائلة تنقسم فيها القمصان الداخلية إلى قسمين:


الأول، يخرج من الغسالة ويتشاركه أبي و أخي، فكلّ منهما ضخم الجثة، طويل عريض المنكبين. والقسم الآخر، يعود لي ولأخي، النحيلان.


ولا حاجة لأن تكون في البيت نفسه لتتشارك البياض مع قرينك، يكفيي أن تذكر في إحدى مكالماتك الهاتفية بأنك تحتاج شيئًا من ذلك ليأتيك، ملفوفًا بكيس أسود، ومصلوبًا داخل شريطين من اللاصق البني العريض.


هناك دائما من يشتري ولكنه لست أنت، أنت صغير ولست قادرًا على صناعة التاريخ، إنما عليك عيشه أو ارتداؤه ريثما تزداد حنكة وتصبح مؤهلًا للتسوق!


لذا فإن أول مرة أشتري قمصان داخلية، كانت كبيرة، فأرجعتها وقلت للبائعة  بأني أريد غيرها وبعد أن أعطتني غيرها، وضعتها على بدني فكانت صغيرة، عدتُ إليها وسألتها «ألا يوجد عندكم شيء على مقاس أخي؟!»


في البلاد البعيدة الباردة، تعيد تكوين نفسك وتعيد تقييمها أيضًا. أنت أبطأ مما كنت عليه لأنك لا ترتدي حذاءَ أخيك، وأنت أضعف مما كنت عليه لأنك لا ترتدي معطف والدك، أنت أكثر عرضة لنزلات، البرد لأنك لا ترتدي قميص أخيك الداخلي الذي يعرف كيف  يلتصق بك ويداري غربتك. أنت أبيض ناصعٌ، مزعجٌ دون ألوان أمك التشكيلية التي تأتي بمثابة البصمة العائلية المميزة.


الموضوع ليس غريبًا جدًا،خذ اللغة الألمانية، هناك المثل القائل ما معناه الحرفي «نحن نلبس بعضنا البعض»، وإن كان يُقصد بالعبارة المستخدمة الحَمْل، أو التشارك في تخفيف الحِمْل. ونحن نفعل ذلك أيضًا، ولربما بشكل أكثر جمالًا. فنحن نحمل مشاكل بعضنا بعضًا، ونلبس مشاكل بعضنا بعضًا، ونلبس ذكريات بعضنا بعضًا، ونتناقلها من جيل إلى آخر.



كان أحد اصدقائي يحلم  منذ  سنينَ بأن يحصل جدُّهُ على «فروة» أخرى  فيهديه  الفروة التي يرتديها، فيتّكئ عليها  في المضافة ليصبح مثل جده أيضًا، فارسًا يحارب البرد، ويقفز إلى مصاف الأجداد العظماء الذين يستطيعون أن يغمروا عشرة أحفاد بدفئ. صديقي هذا ما زال يرمي نفسه تحت البطانية ولا يعرف ما هو الدفئ.


أنا من ذلك الشعب، بتاريخه الملبوس الذي لا يحب الأبيض في كل شيء، من الشعبِ الذي يشرب  اللبن مخلوطا بالثوم ومائلًا للصفرة.


أنا من ذلك الشعب، الذي يشتري كل شيء جديدًا، ولكنه يُفضّل أن يكون قميصه الداخلي سماويّاً مثقوبًا، وعليه ذكرياته العائلية.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +