ما الذي يتبقّى بعد المجزرة

ما الذي يتبقّى بعد المجزرة

يختفي الهديرُ الأخير للطّائرات التي حلّقت في السماء رويداً رويداً، لتتحوّل سحب المدينة التي كانت بيضاءَ قبل برهةٍ إلى اللون الأسود القاتم، رائحةُ بارودٍ مخلوطٍ برائحةِ شواءٍ تخنق الجو، أصوات صرخاتٍ من هنا وهناك، عربات إسعاف قليلة ومرتبكة تنطلق نحو موقع الكارثة، بيوتٌ أصبحت ركاماً على طللٍ، وطللٌ كان منذ لحظات بيوتاً. رجالٌ يهرعون وسط الدخان الأسود المتصاعد يحملون أجساداً لرجال في منتصف العمر غارقون في دمائهم، أطفالٌ ونساءٌ وشيوخٌ لا يجمعهم شيءٌ سوى أنهم مسجونون خلف أسوارٍ شائكةٍ اسمها الحرب، اسمها الموت الطارئ الذي يأتي حين يأتي دون أن يعرف بحضوره أحد، يأتي بغتة وعلى حين غرّة، فيحصد المئات العُزَّل وهم خارجون في صباح يوم عاديّ إلى السّوق ليجلبوا قوت يومهم، صباح لا تشوبه شائبة سوى آفة الحرب، تفرض سطوتها على الجميع دون تفرقة، فثمّة من يَأمر، وثمّة من يُؤمَر، وبينهما كثيرٌ من الضحايا، لأنّه.. لابدّ من ضحايا.


ما الذي يتبقّى بعد انتهاء المجزرة؛ حلمٌ سخيفٌ - يرفرف فوق رأس شوّهتها القذيفة - بالنّومِ ساعات دون سماع دويّ القصف أو دويّ سقوط البراميل المتفجّرة، دعوةُ أمّ عجوز لابنها المعلّق في البحر محاولاً الهرب بسنواته الغضّة إلى مكان يستطيع أن ينام فيه آمناً مطمئناً، لهفةُ أرملةٍ لإنقاذ رضيعها من هدير الطيران الذي صمَّ آذانها عن بكاء رضيعها، رغبةُ فتاةٍ - لم تزل قدمها متمسّكة بالبرزخ الشّفيف بين الطفولة والأنوثة - في الاستيقاظ يوماً على صوت عصفورٍ يغرّد خارج شبَّاكها، آهةٌ لم تكتمل في فم كهلٍ حاول النداء للمرة الأخيرة على زوجته التي رأى كفّها تسقط من يده. لا شيء يتبقّى يا سادة من المجزرة، سنكتب كلماتنا لنبكي عجزنا، ونعدّ المراثي للضحايا الذين لن نعرف أسماءهم، سنشير إليهم أرقاماً وأعداداً دون أن نعرف عن حيواتهم شيئاً سوى أنهم أناسٌ.. قضوا في المجزرة، كانوا هنا يوماً، مرّوا من هذه الشّوارع الضيّقة ملايين المرات لسنواتٍ وسنوات، دون أن يعرفوا أي الأماكن ستكون شاهدة على خطواتهم الأخيرة، وأيُّها سيكون مقبرةً لهم.


* * *


«آآآه.. يا مدللة بدروب أهل الود يا آخر العنقود


يا دالية عالية تعلِّم محبَّة وجود


يا نايمة ع الصبر وتفيق ع البارود


يا أمنا دوما


يا أمنا دوما


يا جرح أكبر من بلد


يا جرح فوق حدود»*


ما الذي يتبقّى بعد انتهاء المجزرة؛ جثثٌ متفحّمة، جثثٌ مشوّهة، جثثٌ مقطّعةٌ ومتناثرةُ الأشلاء، ودم.. دم كثير، لكنّه على كثرته لا يكفي ليرتوي عطاشى الدّم، هؤلاء الذين كلّما شربوا ازدادوا عطشاً، والدم كثير.. ورخيص، فاملأ معدتك كما شئت يا شارب الدم، نحن مجرّد أرقام ستتضارب بشأنها الصّحف والجرائد وشبكات التلفزة ومواقع وكالات الأنباء. كلٌّ سيقول رقماً ليعارضه الآخر برقم، وسيقرأها الناس وهي تمر سريعاً في شريط الأخبار المتحرّك على الشاشات، ويعودون إلى لغوهم كأنّ شيئاً لم يكن، نحن مجرّد جثث متفحّمة، حيواتنا وجدت كي نكون في ختام المطاف مجرّد ضحايا، أجنّة ورضّع وصبية وبنات وفتيان وصبايا وشبّان ونساء ورجال وكهول وعواجيز.. ولدوا فقط، كي يملأوا خانات الضّحايا، في سجلات المجزرة.


* * *


- ما هذه الضجّة في الخارج يا حارس الأبواب؟


- لا شيء، إنّها الطائرات تقصف العُزَّل في سوق دوما يا مولاي.


- ولمن هذه الجثث المتفحّمة والأعضاء المتناثرة يا كبير الشّرطة؟


- إنّها جثث النساء والأطفال الذين كانوا في السّوق يا مولاي.


- غريب، وكيف لا يخرج الناس ليعترضوا أو يثوروا أيها الوزير؟


- هذا عقابهم على ثورتهم يا مولاي.


- وأين العالم من كلّ هذه الدماء المراقة يا حكيم الحكماء؟


- العالم مشغول بأشياء أخرى يا مولاي.


- وأين الله إذن يا كبير الأئمة؟


- الله.. في قلوب الذين ماتوا يا مولاي.



*  الشعر من كلمات: فادي جومر

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +