الأنوثة التي تخصّنا

الأنوثة التي تخصّنا


ربّما كان ذلك حين كنت في الحادية عشر من عمري، ربما في الثانية أو الثالثة عشر، لم أعد أذكر تحديداً متى حدث هذا، ما أذكره أنه كان أول يوم في السنة الدراسية الجديدة، عليّ أن أصطحب شقيقتي التي تصغرني بعامين معي إلى المدرسة.


أيقظتنا أمي في الصباح الباكر، وكان أبي في العمل منذ ليلة البارحة، يعمل في وردية ليلٍ بمطار القاهرة الدولي، تناولنا إفطارنا السريع، ودخلت أختي لترتدي اليونيفورم الخاص بالمدرسة؛ جاكيت أزرق وبنطال من اللون ذاته. كانت البنات وقتها مجبراتٍ على ارتداء الزيّ التقليدي للمدارس الإعدادية وهو اللون الأزرق الموحد، فيما تحرّرنا نحن طلبة المرحلة الإعدادية الذكور من هذا اليونيفورم، فكنّا نرتدي البناطيل الجينز والقمصان الملونة أو البيضاء. أتذكر الآن، كنت في الرابعة عشر من عمري، في السنة الثالثة الإعدادية وكانت شقيقتي التي تصغرني بعامين في السنة الأولى الإعدادية، وبسبب ضيق الحال، كان على شقيقتي أن ترتدي الزي الذي فصّلته أمي لها العام الماضي حين أُعلنت النتيجة وعرفنا أنها نجحت في المرحلة الإبتدائية وستلتحق بالمرحلة الإعدادية، نسيت أمي أن البنات في هذه السن يكبرن وتتغيّر أجسامهنّ بسرعة، وحين ارتدت أختي البدلة المدرسية الجديدة وجدتُها ضيّقةً بشكلٍ أثار جنوني وثورتي، فأعربت عن رفضي لأن تخرج معي بهذا الزي الذي يظهر منحنيات جسمها المائل أصلاً إلى البدانة. هدَّدَتني أمي بأنها ستخبر أبي عن رفضي لاصطحاب شقيقتي معي إلى المدرسة، ورغم رعبي من رد فعل أبي الصارم، إلا أنني تمسَّكت بموقفي، وذهبت وحدي إلى المدرسة في عنادٍ مكابر، رافضاً أن تخرج أختي من البيت بهذا الزيّ السافر!


كنتُ في الرابعة عشر من عمري، لكنّني عدت من المدرسة وأنا أهيئ نفسي لعلقةٍ ساخنة من أبي. مؤكدٌ أنه عادَ صباحاً من العمل وأخبرته أمي بما كان، أعرف تماماً أن شقيقتي بكت أمامه وهو الآن في انتظار عودتي ليعلقني من قدميّ في مروحة السّقف وينهال عليّ بخرطوم البوتجاز (تهديده الدائم لي دون أن ينفّذه مرة واحدة). قلت في نفسي وأنا عائد: «ستكون المرة الأولى التي تجرب فيها خرطوم البوتجاز يا عمدة»، وصلت البيت وأنا أرتجف، طرقتُ الباب ففتحت لي شقيقتي وهي تشيح بوجهها غاضبة، وجدتُ أبي جالساً أمام شاشة التليفزيون، رمقني بعينين جاحظتين وأنا أضع حقيبتي المدرسية عن ظهري وناداني: «تعالَ هنا». ذهبت إليه وركبتاي تصطكان من الرعب، وذراعاي يحاولان التأهب لأي «كفٍّ» تهبط على وجهي، لكنني وجدت يده تطبقُ على قميصي الأبيض من فوق كتفي الأيسر، ويجذبني إليه وهو يقول: «اللي عملته النهاردة هو الصح، لو في يوم لقيت أختك أو حتى أمك خارجة بلبس مش عاجبك، كسَّر عليها اللي تلاقيه قدامك، فاهم؟!»، ارتعبت من صوته المرتفع وقلت مرتجفاً: «حاضر»، فهزني بشدة: «جدع»!


استعدتُ هذا الموقف الغريب من الذاكرة وأنا أتابع الحرب التي اشتعلت في الأسبوعين الأخيرين بين اللبنانيين والمصريين بسبب ملابس المتظاهرات اللبنانيات، وسخرية المصريين المتحرشة المعتادة من أيّ تحررٍ أنثوي تشهده المرأة في البلدان العربية، وأدركت مدى المفارقة التي رُبِينا ونشأنا عليها، وإلى أيّ مدى احتقرنا الأنوثة التي أخفينا اشتهاءنا لها، فصارت مكمن تشوهاتنا وسلوكنا الشيزوفريني تجاه كل شيء يتعلق بالأنثى. كأخٍ أكبر، ربَّاني أبي على الحرية في كل شيء، فيما ربّى شقيقتيّ على الحرمان من كل شيء، ونصّبني رجلاً صغيراً أفرض لاءاتي ليس على شقيقتيّ فقط، بل حتى على أمي!


هنا مربطُ الفرس، تربّينا على كبت الأنوثة التي تخصنا (أمّاً، وأختاً، وزوجة، وابنة)، ومَنحنا أنفسنا صكاً دائماً للغفران فيما يتعلق بشهواتنا نحن الذكور تجاه كل أنثى بعيدة عن السياج الذي يخصّنا (جارة، صديقة أخت، قريبة للعائلة، أو حتى زوجة صديق)!


الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +