شيءٌ ما قادني الى محطّة الباصات اليوم، تلكَ التي نسمّيها «ستيشن دبي» بالرغم من كونها نقطة انطلاق الى كلّ المدن. ساحةٌ واسعة خضراء اللون في وسط مدينة أبوظبي، تختلف هنا الجنسيات والألوان والمعتقداتُ واللغات كأنها مجسمٌ مصغّرٌ شمعيٌّ عن كامل البلاد، هنا تصطفُّ حافلاتُ الركاب كالعرائس في عرسٍ جماعيّ، تنتظرُ المسافرين المنهكين المستعجلين تماماً كما في كلّ المدن، لا وجود هنا لسيارات الليموزين ولا حتى سيارات التاكسي. حافلاتٌ متعبةٌ يقودها سائقون متعبون من كلّ شيء سوى الصراخ. لابد أن الجميعَ مرَّ من هنا يوماً ما، ولو أنهم يطوفون حولها اليوم بسياراتهم دونما التفات، وهم الذين ركضوا الساحة لاهثين سابقاً للحاق بحافلةٍ ما أو لشراء التذاكر قبل أن تغلق النوافذ قبيل الصلاة.
في أبوظبي، ثمة سحرٌ عصيٌّ على الفهم، فكلّما علا بنيانها تذكرنا ماضيها أكثر، تجدُ خصلاً من الشيب في شعرها، تتركها -عمداً- بلا أصباغ. ذاك مثلاً المبنى الكبير المُسمى بمركز التجارة العالمي الآن، لا زال يعبق برائحة القماش من «السوق القديم» الذي احترقت قلوبنا معه حين شبّت فيه النيران منذ سنواتٍ طوال، لينهض المركز الجديدُ بعدها على أنقاض طفولتنا. ومنطقة «النادي السياحي» أيضاً، بكل عماراتها الشاهقة، لا نرى فيها حتى اللحظة سوى ذكرياتنا في النادي العتيق الذي سميت المنطقة كلها على إسمه. نحنُ القدماء في أبوظبي إذن، نفاخر فيما بيننا بما شهدناه من معالم في هذه المدينة المتجددة الصبا، فإن صودفَ والتقينا بمن لا يعرف عن «المارينا» سوى أنها تحوي مركزاً تجارياً يطلّ على البحر، تجدنا نسابق بعضنا لنقول بنبرةِ العجائز: «كان هذا كلّه بحراً في السابق، وتمّ تبليطه». ثمّ نرفقها بالجملة المشهورة: هل سمعتَ بمن يبلّط البحر؟
يجرفكَ هذه المكان نحوه كعاصفة، فكلما اعتقدتَ أنكَ خارجَ هذه الصحراء جاء أهلها بلباسهم الأبيض الذي توارثوه أباً عن جد وبلهجتهم الشعرية التي لم يتقنوا سواها أينما حلّوا، فيعيدونك إلى حيثَ أنت فعلاً، مازال «عيال زايد» (كما يحبون تسميتهم) يتفاخرون بخيلهم والإبل، بالمزارع والقبائل، بالشعر والقافية، ثمة هويةٌ في هذا المكان تسيطر عليها كثبان الصحراء، ومازال أهلها يعودون إلى حيث انطلقوا كلما صدّعت الأضواء رؤوسهم واحتلتّهم الضجّة. حينَ عاد صديقي الإماراتيّ من زيارته لبرلين سألته عن رحلته فابتسم قائلاً: «والله اشتقت للشيلة» وهي لباسُ النساء التقليديّ هنا.
يقودك الطريقُ في أبوظبي إلى البحر دوماً، فلا تقاومْه! واجلس حبيسَ الأمواج لبعض الوقت، دع الزَبَد يعلق بين أصابعكَ لينسدل كستارة، انتظر قليلاً حتى يعودَ الصيادون من رحلتهم، انتظر حتى يهدأ البحر واقترب، هنا تقولُ ما في جعبتك عن الوحدة والسعادة والحب والشهوة والموت والمستقبل والحياة. أفرغ روحك على الشاطئ كأنك لن تعود ثانيةً. سوف يجيبك الصوت من القاع يوماً ما، فقط أخلص لاهتزاز المياه وارسم صوراً لمن سبقوك وركبوا البحر بحثاً عن الحياة.
أجمل ما في هذه المدينة هو أنها تنام، فالمدن التي لا تنام تجعل من النوم على سكانها محض ضرورةٍ جسدية، الآن، أرى روّاد «ستيشن دبي» يتلاشون واحداً تلو الآخر وقد هطل الظلام فجأةً على أجزاء المحطة كافة، خفّ صخب المسافرين وقلّ عدد الحافلات بشكلٍ ملحوظ، وتهيّأ لي أبي وسط هذا الصمت، كيف هجرَ ذاك النحيلُ بلاده وهو في عامه التاسع عشر، وعاد لها جثةً شارف صاحبها على الستين، قال يوماً حين طُرحت فكرةٌ للانتقال من أبوظبي إنه لن يهجرها إلا متوجهاً إلى سوريا، وصدق.