عن سوريا ... لا عن الياسمين!

عن سوريا ... لا عن الياسمين!


حين تحترف البُعد ينساكَ المكان، قد تجوب شوارعه محاولاً إظهار معرفةٍ وهميةٍ تقيكَ النظرات الحادة، تلكَ التي ترسم عنك الصورَ وتُحيكُ الحكايا. أنت الآتي من البعيد، من حيثُ لا فلاحينَ يلبسون الصباح وشاحاً ولا زقاقَ يردّ الصدى.


تلتهمُ المدينةَ دفعةً واحدةً علّك تكسب لونها الحنطيّ وتمضي كمثل من حولكَ هائماً في اللاشيء. تستعرضُ الأغاني وقصصَ المجانين، تحفظ ما استطعتَ من الوجوه لتلقي السلامَ حين يمرّ بكَ أحدهم على عَجَل. وكأنكَ الغريبُ حقاً يعرفونك من النظرةِ الأولى، فضحتكَ عيناك إذاً ، فليستا - بالدرجةِ الطبيعية للمكان - مثقلتان بالأسى.


كنتُ صغيراً، لمّا سمعتُ ابنة خالتي الكبرى تصف وجه صديقتها الأسترالية حين عَلِمت الأخيرة أن طلّاب المدرسة في سوريا «من ضمنهم ابنة خالتي طبعاً» يلبسون بدلاتٍ عسكريّةٍ كما لو أنهم جنود حرب. علمتُ حينها أن هؤلاء الأشقياء الذين ألعب معهم في الصيف، يمضون أشهر الدراسة ببدلاتٍ حربيةٍ يرددون الشعارات ويتوعدون الأعداء بالموت المحقق، بينما أنا على بعد آلاف الكيلومترات، أحاول جاهداً أن لا يتسخ قميصي الأبيض وبنطالي نبيذيّ اللون.


في سوريا، تلكَ التي أزور كلّ صيف، تُبنى الدروع البشرية من الطفولة.


حين أوقفني الشرطيُّ ذات صيفٍ في دمشق لغرض «الاسترزاق» لا أكثر، سألته محاولاً الهروب من المخالفة أو حرجِ الرشوة: «إنت ما شفت رقم السيارة قبل ما توقفني؟» وهي جملةٌ اعتاد النافذون قولَها نظراً للأثر السريع الذي تخلفه في نفس ذاك المُطبّق للقانون! فبعض أرقام اللوحات تشير لعودة ملكيّتها لأحد الأفرع الأمنية مما يعني أن الشرطيّ قد أوقف السيارة التي كان يجبّ أن تكمل طريقها دون إزعاج، ما كان منه إلا أن اعتذر وطلب مني متابعة الطريق.


ضحكنا كثيراً يومها، أذكرها الآن وأختنق، فلم يلحظ ذاك الشرطيّ رداءة السيارة حينها ولا صغر سنّ راكبيها أو حتى رقم لوحتها الذي لا يدلّ على أي شيء، هو فقط سمع بضع كلماتٍ يعلم حقّ العلم أنها قد تقود الى شيءٍ لا يريده.


في البلاد التي نحنُّ الى ياسمينها، يخاف شرطيّ المرور من السائقين. في تلك البلاد التي يتغنى بعض سيّاحها بخلوّها من الفقراء كما سمعوا، ينام المواطن الصالح «أبو بحر» مع طفليه في خزّانٍ للمياه، حيث كان يعمل «بحر» ذو الرابعة عشر حينها «كـ صبي فحم» في أحد المقاهي بينما الصغير ينظفّ الطاولات. وأبو بحر الذي كان ينتظر زبائن الليل ليشتروا له البيره مقابل حكاياته المشوّقة، كان يفتخر أن الأطفال ينالون الرضى من ربّ العمل، وأنه لن يرسلهم ليتعلموا لسنوات وينتهوا في الخزان ذاته! يحدث أيضاً أن أعضاء فريقِ مشيٍ سوريٍّ يلبسون الشورتات ويجوبون بعضَ مناطق الريف الشماليّ في سوريا سعياً لاستكشاف الطبيعة، لتتحوّل غايتهم الى محاولة إثبات هويّتهم السورية، بعدما ظنّهم أهل القرى من الأجانب لغرابة لباسهم ونسائهم، ليس هذا فقط، بلّ وحملوهم السلامات لـ «أبو أحمد»، طالما أنهم من «العاصمة» ولا بد يعرفونه!


في سوريا، البلاد التي لا يموتُ أهلُها من الجوع، أريافٌ بعيدةٌ تجوع وحدها بصمت.


تعتاد عيونهم على غرابتك فتخفي الحزنَ وتبتلع الألم، آملاً أن تمضي إجازتك كما خططت لها من دون أن تعكّر، وتعود من حيث أتيت، فتذكّر هذا دوماً: البلاد أقسى مما تبدو وأنت ترشف قهوتك في أوّل يومٍ من رحلتك المحفوفة بالترحيب والولائم!


وفي بلاد الغربة، حيث تتنفّسُ وهم العودة كلّ يوم، تجد الخارجين حديثاً من تلكَ البلاد المُترهلة، يرقصون في البارات ويذهبون إلى العمل صباحاً ككلّ الناس، يركبون الميترو وسيارات التاكسي، يتذمرون من رداءة الطقس مثلُكَ تماماً، وكما عرفوك هناك تعرفهم. بسرعةٍ سوف لابدّ تعرفهم. هؤلاء هم السوريون، مهما علا صخبُهُم واحترفوا الاغتراب، تفضحهم عيونهم دوماً، تلك المثقلةُ بالمآسي.


الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +