التيه في القرية العالميّة

التيه في القرية العالميّة

ليس الاكتفاءُ باستعراضُ طوابيرِ المشردين الذين يهيمون على وجوههم في أصقاع الأرض، دونَ التطرُّقِ للمقدِّمات، سوى اهتمامٍ سطحيٍ بمظهرٍ متغيرٍ بشكل دائم. وهو تعاملٌ مع النتيجة كأمرٍ واقعٍ مُقتَطعٍ عن مقدماته وأسبابه، الأمر الذي يوحي بانعدام الرغبة في معالجةٍ جديةٍ هي من صلب مهمّات القوى الكبرى المهيمنة على القرار العالمي، وهنا بالضبط يكمن مبرر التساؤل عن مسؤولية هذه القوى تجاه هذا الواقع، وعن دورها وأسباب عدم رغبتها في معالجته.


لماذا الدفاعُ عن حقّ اللجوء والتشرد؟ وليس عن حقّ التوطّن والعيش وفق شرائع الحضارة والتمدن؟ بأي منطقٍ يُقتَلَع المرء من وجوده وأرضه وثقافته، إلى تشردٍ مطلقٍ بلا وجهة ولا أفق؟ ألم يكن من الأولى بالمدنية والحضارة الحديثة التوقف عند ذلك، والإعلانُ صراحةً عن حقّ هؤلاء المشردين بالعيش على أرضهم وفي بُلدانهم بسلام، وترجمة ذلك الإعلان إلى سياسة؟ ألا يندرج هذا السلوك في إطار المشاركة في صناعة هذا التيه الفريد في التاريخ؟ بقصدٍ أو من دونه، لا فرق.
المغامرة كبيرةٌ والضحايا كُثُر؛ ولكن لو لم يكن خيار التهجير قائما ًومُروجاً له، ولو بقي الجميع في بلادهم، تُرى هل كان سيزيد عدد الضحايا عن أولئك الذين تبتلعهم البحار وشاحنات الموت؟ وما هو الشكل الذي كان من الممكن أن تتطور إليه الوقائع؟


لا أحد يعرف بالتحديد، لكنني أزعمُ أن المسؤولية كانت ستنحصر وتتحدَّد، والأهم، أنه لم يكن لإرادة القتل أن تتطاول وتتغول أكثر عبر شرعنة هذا القتل، وتجزيء المسؤولية عنه.


تبدو هذه السياسة نوعاً من شرعنة سيطرة القوة وإعدامِ القانون، من خلال توزيعِ مسؤولية القتل بين الجو والأرض والبحر، وبين القذائف والسيوف ومهربيّ البشر. وبين السياسة ومقتضيات الاستبداد من جهة، وحقوق الإنسان وتعبيراتها من جهةٍ أخرى.


يحقُّ لنا أن نسأل: من أتاح لجهةٍ ما، أو قوةٍ مهما كانت، أن تُبيح لنفسها حقَّ العربدة وقتل من لا يريد النجاة بجلده والهرب، لتلتقطه أيادٍ وظروفٌ ليست أقل توحشاً وفتكاً، وتَبقى منظومتها الاستبدادية متحكمةً بمآلات الثروة والسلطة دون مساءلة أو محاسبة، وفق شرعةٍ صاغها العالم المتحضِّر مُمثلاً بمنظمةٍ أنشأها لهذه الغاية، هي الأمم المتحدة؟!


قد يُقال إن ما تقدّم أعلاه يندرج في سياق نظريات المؤامرة، لكننا نعرف أن المجتمع الدولي بقيادة وتوجيه الولايات المتحدة الأمريكية لم يتورَّع عن احتلال العراق وأفغانستان، ولم تترك أمريكا بؤرة صراعٍ إلا وتدخلت فيها مباشرةً أو بالوساطة، ويجري كل ما يجري اليوم أمام مناظيرها وأجهزتها وقوتها ووسائل الرصد ومراكز الدراسات التي تملكها، غير أنها لا تُحرِّكُ ساكناً غير أن تصفعَ وجوهنا بتصريحاتٍ سمجة لا ترقى حتى إلى مستوى العلمِ بما يحدث.


لسنواتٍ طويلة بقي محورُ اهتمام الغرب العملَ على منع إيران من امتلاك قنبلةٍ نووية، لكن مجمل ما تم تمريره في بلدان هذه المنطقة يفوق بحجمه وتأثيره تأثيرَ القنبلة المزعومة، والتي كان من الممكن حلُّ معضلتها منذ البداية، خاصةً وأننا اليوم، وبعد إعلان توقيع الاتفاق النووي بين إيران والقوى الغربية، نقف مشدوهين من حجم نفاق وفجور هذه القوى في التعبير عن مصالحها.
تتفاقمُ أيضاً قضية اللاجئين الفلسطينيين منذ عام ثمانيةٍ وأربعين حتى الآن، على الرغم من صغرها قياساً بما يحصل اليوم، ونعلم جميعاً ما ترتَّب على هذه القضية من واقعٍ قانونيٍ وأخلاقي، وما نجم عنها من منظماتٍ وأموالٍ وبنوكٍ وتوظيفات. إذن كيف لنا أن نتصور ضخامةَ ميزانية ومتطلبات لجوءٍ بهذا الحجم والتوزع، بالنظر إلى حجم المأساة السورية، والعراقية، والليبية، واليمنية... إلخ؟ وما مدى شراسة ووحشية المافيات المتحكمة بكل تلك الإمكانيات؟


على أيّ حال، يبقى السؤالُ مفتوحاً عن النتيجة النهائية لأكبر وأشنع اقتلاعٍ وتهجيرٍ شهدته البشرية، والذي يبدو كما لو أنه اختبارُ بقاءِ الأقوى، أو كأن من يديرُه مُخرجٌ يريد إثبات نظريته في إزاحة وإعدامِ الأضعف، بعيداً عن أيّ مسؤوليةٍ قانونيةٍ أو أخلاقية.
من يريد أن يتفاءل ويدفع رؤيته إلى الأمام، لا يملك سوى القول: لعلَّ ذلك يقود إلى نتائج لم تكن في الحسبان، ولعلَّ هذه تكون أكبر عملية تلاقحٍ في التاريخ تؤسِّسُ لعصرٍ جديد، ومنطلقاتٍ جديدة لصياغة وتكوين المجتمعات؟!
مشاهدُ الجموعِ المهاجرة سيراً على الأقدام، وصورُ الموت المتجدِّد كلَّ يوم، لن تكون المشهد الأخير.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +