يكرهني جميعُ الطغاة

يكرهني جميعُ الطغاة

اشتباكاتٌ كثيفة، انفجارات، وسماءٌ تمطرُ قذائفَ لأتفه الأسباب، غيمة بيضاء عابرة كفيلة بفتح شهية الراجمات، جميعها تدوي في رأسي بينما أسير مُدمى الخيال في شوارع بيروت الهادئة، وحشودٌ من الأطفال والنساء الجميلات، جميعهم سعداء بينما أنا المذعور الوحيد بينهم.


* * *


الفتاة التي لم تكن ترتدي إلا ما قلَّ ودلّ، والتي صرختُ بها مستفسراً عن مكان سقوط القذيفة التي مزقت ثيابها، كلفتني شهراً كاملاً في السجن لأقنع المحقق أنني لم أقصد التحرش بها بتاتاً، بينما لم ينجح هو إطلاقاً بإقناعي أنها كانت ترتدي ملابسها البحرية على أحد أهم شواطئ بلاده. لقد كنتُ مقتنعاً بأنها طالما أنكرت القذيفة، فلا بد أنها هُجِّرت من منزلها فجأةً، ونسيت بقية ملابسها هناك.


* * *


تباً.. أنا أكره الحلاقين، يذكرونني بعناصر داعش، ولاسيما تلك الشفرات والأماكن التي يستمرون ساعةً كاملةً بالعبث فيها، رأسي. لذلك أجري فحوصاً شاملةً كل مرة لضغط الدم ومعدل السكري، ثم أصدِّقها من وزارة الصحة ووزارة الخارجية، وأبرزها للحلاق ببراءة: «أستطيع الحلاقة، لا تقلق».


على الكرسي، والمريول الذي احتاج ثلاثة رجال لتثبيتي كي أرتديه بسبب لونه الأرجواني، فاجأني الحلّاق بكلامه: «تصور!، حدثني صديق لي في السويد أنه سبق وأن رأى الشيخ (فلان) في شاطئٍ للعراة، وهو أحد أهم القياديين في داعش الآن». هذا المتحذلق يحاول الإيقاع بي، أجبته: «ربما كان يمارس هوايته بغض الطرف يا أخي».


خريطة وجهه كلها تغيرت بثوانٍ، أضحكُ مكابرةً على الرعب، ما هذا الخطأ القاتل في التقدير. تجلجل ضحكتي أعلى فأعلى.. لمن يتبع بالضبط هذا العنصر الحلاق؟


* * *


الشرطيُ الذي اصطدمت به خطأً، تمتم بكلمات غير مفهومة، وأغلب الظن أنها شتائم. أُخرِجُ بطاقتي الشخصية دفعاً للشبهات، فيُخيل لي أنه قال: «عذراً، عليك العودة إلى الحلاق، فأفضلية العبور للأقليات».


أبكي: «أنا أقلوي صدقني، أنا الوحيد الذي يملك صوتاً مبحوحاً إلى هذا الحد، وجبهةً مسالمةً تحتل معظم وجهه. وفي حال موتي سأنقرض»، فإذا بحدقتيه تتسعان حتى خُيل إليّ أنني أرى سقف حلقه من خلالهما.


* * *


الأطفال والنساء الجميلات، الحلاق الانغماسي، الشرطة، جميعهم يحاصرونني في هذه المدينة، لمن يتبع كل هؤلاء يا ترى، داعش أم الجهات المختصة؟!.


أصرخ متلعثماً: «أنا أحب الطاغية»، أعتقد أن هذه العبارة سترضي كلا الطرفين.


* * *


في غرفة التحقيق مجدداً -أو هكذا اعتقدت- سألني المحقق ذو الرداء الأبيض كأطباء المستشفيات: «لماذا خرجت من بلادك يا بني؟».


أجبته: «حَدَثَ أن لقطتني الكهرباء ثلاث لقطاتٍ مشبعات، أي أنها صارت مثل والدتي حكماً، ومنذ ذلك الحين والحكومة تلاحقني بحجة التضخم السكاني (أمٌّ واحدة تكفيك يا وقح.. لماذا أمَّان!)، كما أن داعش تلاحقني بتهمة الشروع بالزنى، إذ احتسب خليفتهم أول لقطتين تحرشاً بالمحصنات».


قال: «ما هو المشروب الذي تعاقره؟!».


قلت: «نشرة أخبار على الريق، وفي بلادي كان يكفي أن استيقظ  لأفقد رشدي».


سألني: «لماذا تعتقد أننا الجهات المختصة؟».


أجبته: «بحكم العادة التي تحولت إلى طبيعة، أنا أسمّي أي مجموعةٍ قادرة على احتجازي وتعذيبي وبث الرعب في نفسي بالجهات المختصة».



* * *



في التقرير الطبي الذي رفعه المحقق للقيادة، أكَّد أن المسافات الشاسعة بيني وبين بلادي أو الحرب، لم أعد أدري لأياهما أنتمي على وجه اليقين، أكَّد أن هذه المسافات تسحق جمجمتي تماماً باستثناء الذاكرة.


اعتقد أنني سأُعدَم بسبب هذه التهمة، لأن جميع القتلة هنا تقاس ذاكرتهم بسعر صرف الدولار، الخيانة انقطاعٌ لحبل الذكريات، وجميع القتلة باعوا ذاكرتهم مسبقاً، أما الذين ارتهنوها ثم استعادوها لاحقاً فقد انتهوا منتحرين سداداً للدين.


الذاكرة، تلك العملة الصعبة التي لا يُخشى على بلاد بوجودها مهما انهارت عملتها الوطنية.


أنا لا أنسى وجوه القتلة أبداً، لذلك يكرهني جميع الطغاة.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +