كابوس سياحي

كابوس سياحي


أنا الذي أكبرُ حسبَ التوقيت المحلي للقيامة، وقبورها الفارغة.


أقولُ، مُهوِّناً على نفسي: «لا بأسَ إن مَضى وقتيَ البطيءُ سَريعاً، فألفُ سنةٍ في اليومِ الواحد، أهونُ بكثيرٍ من يومٍ واحدٍ بمقدارِ ألف سَنة».


«ما قصَّر في الأعمار طولُ السّهر»، رُبّما، بيدَ أن نوماً تتقاذفُكَ الكوابيسُ فيه بين الخراب والموت، على ضوءِ قمرٍ شاحبٍ «لا يَتحرّشُ حتّى بنفسه»، سيجعلُ من العمر أقصرَ من «شورت» سباحة علماني.


أُشبِّهُ الكابوسَ بجولةٍ سياحية في أرض المَعركة؛ حافلتنا دبابة، ودليلنا جذعُ جُندي بلا رأس، ونوارسنا غربان، وأشجارنا جُثث، وسلة المُهملات حقيبةٌ مَدرسيّة، وفي جيبِ الكرسي علبةٌ من مُلطّف الجو كُتِب عليها: «نموذج خاص، برائحة الدم الطازج».


ثم، وبعدَ كُلّ هذا، يَخرجُ صَوتٌ مُتقطّع عبر اللاسلكي، ليقول: «مرحباً بكُم في جولتنا السياحية المحليّة في ما بعد أطلال البلاد، ولأننا نريدكم ألا تشعروا بالضجر، نُعلنُ عن مُسابقة الرحلة. يفوزُ الرابحُ بثلّاجة من الأشلاءُ النظيفة والمجمركة، للبيع أو التركيب. تَجري مُسابقتنا اليوم على أرضِ هذا الخراب الرحب، والمطلوب منكم، أيها المُتسابقون والمتسابقات، أن تَجِدوا رأساً تليقُ بجسدِ دليلنا السياحي العزيز». وهُنا، يُحرّك الجذع سبّابته اليُسرى بلا تكلُّفٍ، راسماً، بما يفيضُ من دمه، ابتسامةً مُحِبّةً أسفل رقبته.


ننطلقُ خارج حافلتنا بشغفِ الأطفال الذين خرجوا للتوّ من درس الرياضيات، يَدوي في أرجاء المكان صَوتُ صفّارة الإنذار، مُعلِنةً بداية رحلة البحثِ عن الكنز. تصيحُ إحدى المُتسابقات مُتذمّرةً: «هذا والله لقمّة التعجيز! كمَن يبحث عن إبرة في كومة قش»، فيجيبُ الشاب برفقتها بنبرةٍ هادئة: «لا تخافي يا حبيبتي. إنْ لم نَجِد رأساً مُناسباً في غضون دقائق، فسأقدّم لك رأسي». فتجيبهُ بحياء: «سلامة رأسك يا عمري، بل نكتَفي برأس أحد المُتسابقين هُنا». ومنذ تلك اللحظة، صار كلّ فردٍ في مجموعتنا يَبحثُ بيَد، ويُمسِكُ رأسَهُ بالأخرى.


يَجدُ أحدنا رأساً، فيَحملهُ ويجري مُلوحاً به من شعره، مثل «راعي» الأول في دبكة عرسِ المختار، صوبَ دليلنا الذي يتفشّى الشوقُ في جسدهِ حُروقاً من الدرجة الثالثة. ومُتأنياً، يضعُ الرأسَ على الجسد، فأتذكرُني طفلاً أعبثُ في مطبخِنا، مُحاولاً أن أجمعَ أجزاء خلاط «المولينكس» لكي أُعِدَّ نصف موزة وكوبين من الحليب قبل أن تستيقظَ أمي وتوبّخني، دون أن تقدرَ على إخفاء ضحكاتها، لأني ركّبتُ الخلاط على نحوٍ خاطئ صار فيه أقربَ إلى شَكلِ فيلٍ بعُنُق زرافة.


يُعيدُني صوتُ انطباقِ الرأس على الجذع إلى الجنديّ والسائح، حيثُ يبتسمُ الأخيرُ ببلاهةِ مُتقاعدٍ أميركي يلتقطُ صوراً بالقرب من مَقهى النوفرة، فأرى في الرأسِ وجهي مُعفَّراً بالبارود، مُخضباً بدم صاحبه الجديد. أتلمّسُ رأسي على الفور ذاهلاً، ثم أرتاحُ قليلاً عندما أجده مازال في مكانه. أتحسّسهُ من جديد، مُستغرباً القبعة الصغيرة في قمّتِه مثل «كيباه» اليهود، أنزعها مُستهجناً، لأستيقظ مقطوع النفَس بعد أن رأيتُ أن هذه القبعة لم تكُن في الحقيقة سِوى الغطاء البلاستيكي لخلّاطنا.


الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +