مفتاح، فلتر، وتلفون ... القانون الذي لا يحمي المغفلين

مفتاح، فلتر، وتلفون ... القانون الذي لا يحمي المغفلين

التفت عليَّ جاري في المقعد أثناء رحلتنا إلى دمشق، من وين الأخ؟ أجبته؛ موحسن.


راعه الجواب وأكمل، أهل موحسن كلهم نصابين. وقبل أن آتي بأي ردة فعل أو أعترض على كلامه، سرد حكايته مع أحد الأشخاص من موحسن، الذي وعده بتأمين فرصة عمل له ولأولاد عمه في إحدى شركات النفط العاملة في دير الزور، مقابل مبلغ مالي محترم أخذه النصّاب وارتدى طاقية الإخفاء.


بدأ هؤلاء بالتوافد إلى دمشق مطلع الثمانينات من قرننا المنصرم، شباب قرويّون بشهادات تعليم دون المتوسطة، فقراء فوضويون تكوينهم النفسي مضاد للحياة العسكرية ما منعهم من التطوع للخدمة في الجيش كما أغلب فقراء الريف. أحلامهم بالثراء أو لنقل بالخلاص من شظف عيشهم في القرية لا تسعها الدنيا، دير الزور حتماً لا تقدم هذه الفرصة ودمشق تبدو سهلة المنال بأحزمتها العشوائية الممتدة من دوما شمالاً إلى اليرموك جنوباً، انتهت أحلامهم هذه بمجرد استيقاظهم من ليلتهم الأولى فيها، فتفرقوا يلتقطون فتات رزقهم الموعود ضمن شبكات توزيع الدخل المشروعة وغير المشروعة الموجودة في العاصمة.


البعض حاول أن يعمل مفتاحاً، والمفتاح هو شخص يعمل عند أحد المسؤولين الصغار أو الكبار (القفل)، وتتم عبره صفقات الفساد والرشوة وقبض الأموال التي يجنيها المسؤول لقاء خدماته التي يقدمها للجماهير الكادحة. هذه الخدمات تشمل كل شيء، توظيف الولد في صوامع الحبوب، نقل البنت المعلمة من مدرستها البعيدة إلى مكان أقرب، تأمين فرز جيد للعسكري، قبول للولد النجيب في إحدى البعثات الدراسية إلى رومانيا أو بلغاريا، نقل سجل قيد المولود الجديد من الحسكة إلى دمشق. وأحياناً، وهذه قليلة، فيز عمل لدول الخليج إلخ...


من لم يسعفه الحظ بإيجاد قفل، قرر أن يكون مفتاحاً للوهم ومنهم صاحب جاري في مقعد الباص، هذا سيحظى بين فينة وأخرى بضحية تبحث عن وهم فيبيعه إياه وتبدأ بعدها لعبة القط والفأر بينهم بعد انكشاف الملعوب. بعد عدة عمليات مشابهة سيكون للفأر أعداء كثر يبحثون عنه، وستنحصر حركته في مربع أمني صغير خوفاً من صدفة تجمعه مع أحد ضحاياه، قبل أن يسوقه حظه السيئ إلى اللعب مع قط شرس سيرميه عاجلاً أو آجلاً في سجن عدرا الحكومي.


البعض ممن يحب الاسترخاء والتأمل ولا طاقة له بالاحتكاك بالناس، عمل تلفوناً، تلفون عمومي تحرياً للدقة، يعطي هذا بطاقته الشخصية لأحد المتنفذين الصغار لقاء مبلغ مالي بسيط لا يتعدى بضعة آلاف من الليرات، ليستخرج بها خط هاتف ويشغّله للعموم في أحد المحلات، خاصة للمكالمات الدولية مقابل تعرفة أرخص نسبياً من تسعيرة الحكومة. ولأن القانون القديم لوزارة الاتصالات لا يقطع الحرارة عن الخط مهما كبرت الفاتورة، فسيجني مستثمر التلفون مبالغ مهمة بمئات الآلاف، قبل أن تقع الفأس بالرأس ويأتي جابي البريد مطالباً صاحب التلفون بالفاتورة العالية، والتي لا يملك منها شيئاً بالطبع، ويسوقه إلى سجن عدرا الحكومي.


يئس أحدهم من ستايل حياته هذه، وقرر الراحة والعمل بالتجارة، ولم يجد شيئاً ليبيعه سوى كليته بعد أن قرأ إعلاناً على أحد الجدران يبحث عن متبرع، اتصل بالرقم الموجود في الإعلان وذهب للعنوان، ليتبين أنه يعود لأحد المتنفذين الكبار في البلد، والذي أكرمه بمبلغ محترم ووعد بتلبية طلباته كافة. صرف الفلتر المبلغ في فترة قياسية على ملذاته الشخصية، حقيقةً وليس مجازاً، وعاد يستجدي زبونه بمبلغ آخر وأعطاه، ومرة أخرى أيضاً، قبل أن يطرده الزبون مع فركة أذن وتهديد في حال العودة مجدداً، وانتهى صاحبنا الفلتر ذو الكلية الواحدة في سجن عدرا أيضاً.


لم يجتمع هؤلاء في السجن معاً إلا نادراً، كانوا كأبطال سباق التتابع، بطل يسلم بطاقة سجن عدرا للبطل الذي يليه.


سألت جاري في المقعد، ماذا حصل بعد ذلك؟ ألم تقدموا شكوى للشرطة ضد نصابكم هذا؟


أجابني نعم، لكنهم قالوا لنا، القانون لا يحمي المغفلين.


قلت له؛ هذه هي، بئس القانون الذي لا يحمي المغفلين. وعاشت موحسن الولّادة بأهلها الطيبين.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +