عن حراس ممالك الصمت

عن حراس ممالك الصمت

ربما يكون النظام السوري ديكتاتورياً، لكن هذا ليس كافياً للتعبير عن طبيعة العلاقة بينه وبين محكوميه، ذلك لأن فكرة الإبادة كانت دائماً حاضرةً في صلب هذه العلاقة، الإبادة السياسية والأخلاقية التي تستهدف حياة السوريين واجتماعهم السياسي، والإبادة الفعلية التي تستهدف أجسادهم عند اللزوم أيضاً، هذا ما يقوله لنا مثال مذبحة حماة الرهيبة عام 1982.


كان حرمان السوريين المديد من حقهم في القول، أي قول وكل قول، عاملاً حاسماً في حضور فكرة الإبادة الدائم هذا، كان ثمة خطاب سلطوي سائد ينبغي على جميع السوريين تكراره إلى ما لا نهاية، دون أن يكون لديهم الفرصة في قول شيء آخر من خارجه تحت طائلة إلغاء القول وصاحبه، حتى باتت جميع أقوال السوريين العلنية، في مجالسهم العامة وفي الصحافة والمسرح والدراما والسينما، تماثل تقريباً أن لا يقولوا شيئاً مطلقاً.


على ذاكرتنا أن تكون حيةً عندما نتحدث عن حقنا المهدور في القول، علينا أن نتذكر جيداً أن ما كنا نقوله جميعاً في السر وفي أحاديثنا الخاصة، الخاصة جداً، مختلفٌ عما كنا نقوله في العلن. ولم تكن الأجهزة الأمنية وحدها حارسةً لهذا الصمت الرهيب الذي يخفي تحته هشيماً كان جاهزاً لأن تشعله أي شرارة، شرارة كتلك التي تسبب بها رصاص النظام السوري في سهل حوران في الثامن عشر من آذار عام 2011.


كنا جميعاً من حيث ندري أو لا ندري حراساً لمملكة الصمت القاحلة تلك، نحرسها بخوفنا واستعدادنا الدائم لتخوين واتهام بعضنا بعضاً، حراساً بأسلحة ذخيرتها مفاهيم التعايش والوطنية والقومية التي لا يجوز أن يدور أي نقاشٍ حولها. لقد كان النقاش ممنوعاً حول الوطن وحدوده وهويته، حول طوائفه وقومياته وعشائره، حول أعدائه وأصدقائه وحروبه الخاسرة دوماً.


كان ثمة ابتذال في الحديث العلني عن الوطن ووحدة أبنائه ومعاركهم مع الأعداء، ابتذال يجعل كل حديث أقرب إلى العدم، وتحت هذا الابتذال العلني كان ثمة كم كبير من الثرثرة الخفية، الثرثرة والشتائم والأحقاد والطائفية التي لا يسمح نظام الحكم «الوطني» في خروجها إلى العلن، لكنه يستثمرها في كل لحظة لإخضاع الجميع وسحق الجميع.


بينما يخوض الثوار السوريون معاركهم مع النظام السوري وتنظيم الدولة الإسلامية وغيرهما، يتكاثر حراس ممالك الصمت في كل مكان، إذ لم يعد حراس مملكة نظام الأسد وحدهم أسياداً في هذا المجال. ثمة ممالك صمت يعمل على بنائها أصحاب مشاريع السلطة، ثمة حراس الوطنية السورية وحراس الأقليات وحراس العروبة وحراس الكردية وحراس الإسلام .. وإلى آخر القائمة، ثمة أساطيلٌ من الحراس الذين يتضافرون رغم خصومتهم على محاولة منع كل قولٍ لا يعجبهم، وعلى منع النقاش العلني حول أي شيء يعتقدون أنه لا يجوز المساس به أو النقاش حوله.


في الزمن الثوري الذي تعيشه هذا البلاد، ثمة كثيرون يسعون إلى إعادة السوريين إلى الصمت، إلى العيش في ظل خطاب علني ممنهج ومنظم من الأعلى، وإلى خنق حق السوريين في القول حول كل مسألة تخصهم بحيث يتحول كل نقاشٍ إلى مجرد ثرثرة في الخفاء، ثرثرة لا تفضي إلى أي شيء سوى تراكم الأحقاد وسوء الفهم المتبادل، لصالح ولادة سلطة في الأعلى، سلطة أو سلطات مستبدة جديدة، مستبدة ومستعدة في كل وقت لممارسة الإبادة التي تحدثنا عنها أعلاه، الإبادة السياسية والأخلاقية، وربما الفعلية أيضاً.


لقد انتزع السوريون حقهم في القول بأرواحهم، وتحطمت مملكة الصمت على بحر من دمائهم وجثامين شهدائهم، وعلى هذا فإنه ليس أمامنا من خيار سوى مواصلة القول، وأياً تكن مآلات الحرب التي تشهدها الأرض السورية اليوم، فإن معركة الدفاع عن الحق في مواصلة النقاش العلني حول كل المسائل والقضايا والأفكار في هذا العالم هي معركة ينبغي خوضها حتى النهاية، كي لا ينجح حراس ممالك الصمت في تشييد هياكل سلطانهم فوق أرواح السوريين وأجسادهم.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +