دعوة مفتوحة للشقاوة

دعوة مفتوحة للشقاوة

لطالما حسدتُ في طفولتي الأولاد الأشقياء، أولئك الذين يملكونَ علاماتٍ على أجسادهم تدلّ على شقاوتهم. لم أكن طفلاً شقياً مثلهم، منعتني – في أغلب الأحيان – سمعة العائلة من ذلك، عدا عن أنني مسالمٌ بطبعي. ففي السويداء، ذات الطباع والنزعات العائلية، كان يصعبُ عليّ – وأنا ابنُ عائلةٍ معروفة في المدينة –  القيامَ بأيّ فعلٍ من دونِ التفكير بمآلاتهِ، لا عليّ كفردٍ وحسب، بل على العائلة وسمعتها أيضاً، وربّما بشكلٍ أكبر، وهذا ينطوي على مشكلةٍ عميقةٍ في تعاطي الفرد مع فرديته، عاناها المجتمع السوريّ وعزّزها من دونِ شكّ النظام الحاكم.


كنتُ خلال سنواتِ دراستي أراقبُ رؤوس زملائي، أبحثُ فيها عن علامات «طرحٍ» أو «فجّ» خلّفها حجرٌ طائشٌ، أو عراكٌ ما مع «ولدٍ شقيّ، كسولٍ بالضرورة» لم ينبت مكانها شعر. وكانَ يسيراً اكتشافُ تلك العلامات في رؤوسِ الزملاء، ذوي قصّة الشَّعر الموحّدة لكل طلاب سوريا آنذاك، والتي تسمّى «القصّة المدرسيّة»!


ظلّ الآخرونَ «الأشقياء» يثيرون غيرتي. كانوا بالنسبةِ لي أشخاصاً خِفافاً من الأثقال، يعيشونَ حياتهم وفقَ فرديّةٍ يحسدونَ عليها، وسلوكيّاتهم تخضعُ لقوانينِ الذاتِ لا الآخر، الفرد لا المجموعة، مما جعلهم أقدرَ على تحمّل مسؤوليةِ تصرّفاتهم إيجابيةً كانت أم سلبية.


أطلقتُ شعري حتّى كتفيّ في سنواتِ الدراسة الجامعية، حيثُ الخروجُ من صرامةِ النظام المدرسيّ وقصّاتِ شعرهِ المتماثلة. لكنّني عدتُ وحلقتُهُ بالكامل قبيل أدائي للخدمة الإلزامية في الجيش، وهناك، عادت المشكلةُ ذاتُها؛ الرؤوسُ الموحدةُ، الشعرُ ذو الطولِ الموحّد. وعلامات «الشقاوة» نفسها!


بدأت الثورةُ السوريّة، عايشتُها لمدةِ عامٍ ونصفِ العام قبلَ خروجي، في فترتها الكرنفالية إن جاز التعبير. وممّا لا شكّ فيه، أنّ الوقتَ والحدث والانخراط النسبيّ في الثورة، أشياء لم تترك وقتاً للتفكير بعلامات الشقاوة على رؤوس الناس، فقد كان الهمُّ الأكبر آنذاك هو الحفاظُ على تلك الرؤوس، شقيّةً كانت أم مسالمة!


وكحالِ أكثر من نصف مليون سوري، تعرضتُ للاعتقال لأيامٍ معدودة، كانَ ذلك في نيسان 2012، وسوى أنّ تلك الأيام كانت كفيلةً بمعايشةِ ما يجري في معتقلات النظام، وملامسةِ الصورةِ التي كنّا نراها من خلال تسريبات فيديوهات الهواتف الخليوية ولا نصدّقها أحياناً، فقد كانت تلك الأيامُ كفيلةً أيضاً بتركِ علاماتٍ في جسدي ورأسي!


علاماتٌ لم أفكّر بها إلّا بعدَ خروجي من سوريا، حيثُ البعدُ عن الحدث السوريّ بالمعنيين الجغرافيّ والعمليّ، وحيثُ الوقتُ يصيرُ طويلاً وشاقاً ولا بدّ من استحضاراتٍ لتزجيته، أو لنوستالجيّةٍ طبيعية لدى كلّ الذينَ يُقسرونَ على مغادرةِ بلادهم.


لم يبقَ من تلك العلامات على جسدي إلا القليل، زالَ أغلبُها، وبقيت علامةٌ في رأسي أيضاً. لكنّ اللافتَ أنني أعاملُها بحبّ وحرصٍ شديدين، لا لمازوشيةٍ دفينةٍ طبعاً، بل لأنّها الدليلُ الوحيدُ على «الشقاوة». نعم، لقد صرتُ شقياً، ودليلي على رأسي!


حينَ فكّرتُ بافتتاحيةٍ لملحق «أشكال ألوان»، خطرلي أنّ رغبتي، هي أن يكون هذا الملحقُ للأشقياء، للذينَ يصرخونَ ويرفضون، ويملكونَ علاماتٍ على الشقاوةِ في أجسادهم.


نحنُ الذينَ أُهمِلنا كأفرادٍ وعوملنا كأرقامٍ في جماعات، مدعوون هنا، في هذه المساحةِ الضيّقة، أن نكونَ أشقياء، فالأشقياءُ أبناءُ الحياة الأحرار.


إذاً، أكتب ... وقوّي صوتك!


الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +