المدن المنتحرة وأسئلة العابرين

المدن المنتحرة وأسئلة العابرين

هل تنتحر المدن، وتعيش الفناء قبل أوانه؟ كم من المدن كانت عابرة ولم تستطع الاستمرار من هول المشاهد التي سُطِّرت عليها، ذلك ما يؤكده المؤرخون. ربما عند مُثول الرعب جلياً، رعب يُفقدها صواب الاتجاهات، حينها تذرع الفضاء رواحاً ومجيئاً، صعوداً وهبوطاً، وتبدأ أحجارها بالتّرمّل. أو ربما حين يمسُّ الشك روحها فتُحال بيوتها إلى تلالٍ من غبار.


يقف العابرون على أطلال الغبار ليخبرهم عن الجحيم الذي حلَّ بالمكان، المكان المكلّل بالأسرار المَنسيّة، ويتساءلون: كم عاشقاً دُفن هنا، وكم كتاباً ظل مفتوحاً تحت الرمل، وكم نافذة أُغلقت، وكم من مواعيد للبوح تأخر عليها أصحابها؟! يتساءلون عن عدد التنهيدات التي سبقت الجنون، وعند عدد الستائر التي ودّعت أصحابها بتلويحه خاطفة، وكم عدد الذين لم يودعهم أحد، ماذا نسوا، وماذا اخذوا معهم؟ هل حزموا حقائبهم أم لم يسعفهم الوقت إلا لتذكّر أولادهم وبالكاد أحياناً؟ هل استطاعوا أخذ صور الأحبّة، وكم تركوا خلفهم عيوناً مفتوحة وعيوناً قيد الإغماض، وعيوناً تسأل عن معنى الحرائق!


بفضولهم المعتاد يتساءل العابرون: هل عاد المنفيون إلى مدينتهم المنتحرة لوداع ترابها قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، أم كانت منافيهم بعيدة؟ هل عرفوا أن طلبها الأخير كان لقاءَهم، أم أن المنافي لا تستجيب؟ العابرون تثيرهم رغبة المدن في الموت والاندثار، ويتهامسون عن ذروة الإحباط والاحتجاج والرفض الذي أودى بها إلى قرار الفناء هذا دون أن يحرك أحدٌ ساكناً، أكانت عاجزة عن حماية ربيعها، أم أن بلوغ الذل ذروته يُختم بتلك النهايات، أم أنها تريد التبرؤ من هذا الاختلال، أو ربّما هي معارك الوجوه لا تغريها فأدارت وجهها للحياة؟


أين ذهب أنبياؤها الذين عادة يحرسون المفارق وابتسامات الغرباء، وهل كانت تحوي أنبياء أم أصناماً؟ فلم يعرف العابرون نوع العبادة التي كانت ترتديها المدينة، إذ تحوّل كل شيء إلى هباءٍ منثور. هل كان انتحارها مفاجئاً، أم أن مساراً طويلاً أوصلها إلى رعونة النهايات؟ هل كانت تتماثل مع شعرائها العُصاة الذين أرغموا أنفسهم على التوقّف لأنّ أعداءهم ليسوا على القدر المطلوب من الجمال، هل بكت عليهم وهل أبكوها قبل الرحيل، وهل حقّاً لم يجد العابرون أي لُقيِّ يثبت أو ينفي وجود الدموع، لكنهم لاحظوا تناثر أبخرة لها رائحة الوجد على مقربة من الركام!


شيءٌ ما يبحث عنه العابرون على أثرٍ مهمل بين شحوب الركام من دون أن يعرفوه تماماً، وإلا لماذا توقفوا طويلاً وتساءلوا تلك الأسئلة المغادرة؟ ربما لن يكتشفوا أنّ وجه الركام لا يشي بأسراره إلا للسحَرة أو الممسوسين! كيف يخبرهم الركام عن أطول الأمسيات، وعن أكثرها جرأةً وأطولها صمتاً، عن الأجنحة التي رفَّت كثيراً قبل انتحار المدينة؟ وكيف .. كيف يخبرهم عن الأرواح التي تتعاظم فجأة في صعودها كالريح، عن بربرية الانتحار المذهلة وعن الأمجاد، والبحَّات المتناهية تحت أديم السماء؟ مرّ العابرون ودوّنوا ملاحظاتهم عن مدن كثيرة كمدن الملح، ومدن منسيّة، ومدن الطوفان .. هل هذا زمن الكتابة عن المدن المنتحرة؟

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +