السعادة

السعادة

لطالما لفتني في بلادنا أن مفهوم الحزن واضح المعالم وحاضر ومعرَّف أكثر بكثير من مفهوم السعادة، يتوضح ذلك بالعودة إلى مناطق معينة من سورية تنحدر منها أصول عائلتي.


الميادين مدينة صغيرة حزينة على ضفاف الفرات في الشمال الشرقي من سوريا، يتوافق الموت فيها مع مزاج الناس ويعيشون تفاصيل حياتهم من خلاله، فعندما يتوفى شخص ما يتم الالتزام بالحزن والحداد عليه لفترة طويلة، فيما تمرُّ أفراح العائلة مرور الكرام وبسرعة، يترافق ذلك مع تذكر الأشخاص المتوفين في الأفراح والشعور بأن السعادة منقوصة بموتهم أو غيابهم. يضاف إلى ذلك أن لحظات الفرح التي يتم تذكرها في المستقبل لابد أن تكون كبيرة، فيما يتم التمسك بالأحزان الصغيرة دون نسيان تفاصيلها، مثل هجرة أحد أفراد العائلة، إذ لابد أن يمرّ ذكره في كل ليلة تجتمع فيها الأسرة على مائدة الطعام، أو في سهراتهم تحت أشجار النخيل في حوش المنزل.


ولابد من الإشارة هنا إلى الطقوس المسرحية التي ترافق العزاء، والتي كانت حتى عهد قريب تتمثل باللطم والبكاء الهستيري. في حين أنه من اللافت أنّ المناسبات السعيدة تفتقر لأي طقوس مرافقة!


ومما شغلني دوماً، قيام الناس في بلادنا في أول أيام عيدي الفطر والأضحى بزيارة المقابر إشارة إلى تذكر الأموات. التي يراها كثيرون لفتة لطيفة وواجباً لا بدَّ منه، ولكنني لطالما شعرت بأنها تمنح العيد كله شعوراً مقبضاً، فهناك دوماً شخص ناقص.


نجحت هذه المدينة الصغيرة الحزينة في إدهاشي نهاية العام 2012. تحررت الميادين من سلطة النظام، وبدا لي وكأنها نفضت عنها كل أحزان الماضي، وبدأت تغلي بالفرح وبحياة جديدة. وفي ظل غياب أي سلطة بديلة لحكم المدينة، قام الأهالي بإدارة مدينتهم بأنفسهم لمدة عام كامل، واختفى لفترة طويلة ذلك الشبح الحزين الذي كان يرخي بظلاله عليهم. نشطوا في كل المجالات، قاوموا ضربات الطيران، وتقبلوا خسارة الشهداء بروح المؤمن المحتسب، ولم يتراجعوا. عملوا على كل الأصعدة لجعل مدينتهم أفضل، ونشطوا في كل المجالات المدنية، وبدؤوا يفكرون في تأسيس فرقة مسرحية، وجمع النصوص التي سيقومون بإنجازها، وقاموا بإخراج أفلام عن مدينتهم المنسية وحكاياها.


عام مذهل يضجّ بالحياة، ويبثّ روحاً لا تشبه روح المدينة التي عرفتها. غير أنّ راية سوداء بدأت ترفرف في البعيد وتهدد الميادين وأهلها. نجح أهل المدينة في صد داعش وإعادتها على أعقابها أكثر من مرة، إلى أن انتهت ذخائر شباب الجيش الحر ودخلت أرتال داعش حاملة سوادها. تظاهر أهل المدينة ضد حكمهم من قبل تنظيم الدولة، رغم ما عمل النظام على ترويجه من أن هذه المناطق وأبناءها ينتمون إلى القاعدة، وأنهم سعداء بحكم التنظيم المتطرف لهم.


بعد فترة على حكم داعش، بدأت أصوات الشباب تخفت، فالقمع مرعب، والرؤوس المقطوعة تعلق في ساحات المدينة، والعمل المدني أصبح مستحيلاً، والتصوير عاد ليكون أخطر تهمة يمكن أن يتهم بها إنسان. وظل صوت شبابنا يخفت ويخفت إلى أن اختفى واستكان. وفجأة عاد ذلك الشبح الحزين يخيم على الأرواح، ويلون بالرمادي حياة أبناء المنطقة وروحهم المثقلة.


كل ذلك جعلني أفكر، هل الحزن هو طبيعتنا؟ أم أنه لون حكّامنا؟ إنه قهرنا المطبوع بالصمت وعدم الرضا، مخرجُنا من قبول ما يجري، إنه طريقنا لمقاومة ادعاء السعادة، إنه ضميرنا اللاواعي، الذي يمنعنا من الفرح إلا إذا كنا أحراراً.


ورغم كل ما جرى، ما زلتُ أعتقد أن المارد الذي انتفض في الحرية ما زال كامنًا، وسينتفض من جديد وينفض عنه غبار حزن الميادين، المدينة التي تحلم بالحرية وحسب بصمت الصابر المنتظر.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +