مات قبل أن يخذلنا

مات قبل أن يخذلنا

عكس ما جرت العادةُ خلال السنواتِ الستّ الماضية، و بدون شوشرةٍ كبيرةٍ، مرّت ذكرى وفاة الشاعر محمود درويش، رغمَ أن محبي الرجل – وما أكثرهم – استذكروهُ بمقاطعَ من شعرهِ كلٌّ حسبَ توجهه.


فالفئةُ المناهضةُ لثورات الربيع العربي، كان لا بدّ أن تكررَ جملتهُ الشهيرة في قصيدة مديح الظل العالي: «أمريكا هيَ الطاعون .. والطاعونُ أمريكا». لا لشعريّة الجملة طبعاً، وهي ليست شعريّةً على أيّ حال، بل لتسجيلِ موقفٍ ضدّ من يقفُ وراءَ دعم الإرهاب والربيع العربي عموماً حسبَ اعتقادِ أنصار هذه الفئة. وقد يُستعاضُ عن هذا المقطع، بجملةٍ أخرى كــ : «سجّل أنا عربي»، تعبيراً عن الالتزام بالعروبة، الذي يحملُ لواءهُ على ما ترى هذه الفئة أيضاً، فريقُ الممانعة، ويتحملُ أوزاراً كثيرة فداءًا لهذا النهج!


أما فئة محبي درويش من المؤيدين للربيع العربي، والمناصرين لثوراته، فلعامٍ جديدٍ وقع اختيارُها على الجملةِ الجاهزة المعروفة للراحل: «وسقطتُ قربكَ فالتقطني، واضرب عدوّكَ بي، فأنتَ الآن حرُّ... حرٌّ وحرُّ». ويسجّل لهذه الفئة هذا العام أنها قلما استخدمت «سجّل أنا عربي»، نظراً لحساسية المرحلة هوياتياً وقومياً!


لكنّ الشوشرةَ التي عنيت، هي التي لطالما رافقت ذِكرَ الشاعر محمود درويش، وسببُها سؤالٌ يشتركُ فيهِ الثوارُ والممانعونَ وما بينهم على السواء: ماذا سيكونُ موقفُ محمود درويش لو كانَ حيّاً؟!


لا سيّما أنّ أسماءً كثيرةً اتخذت مواقفَ اعتبرها الثوارُ صادمةً، بينما هلل لها أهلُ الممانعة، والعكسُ بالعكس.


أنصارُ الاستبداد، ومناهضو الثورات، يرونَ أنّ محمود درويش كان موقفهُ سيتناسبُ مع موقفهم لو كان حياً، مستدلّين على ذلكَ بأنّ الراحلَ لم يقاطع الأنظمة المستبدّة، وتقلّدَ أوسمةً منها خلال العقدين الأخيرين قبل رحيله، كما وأنّ موقفه لن يكونَ مختلفاً كثيراً عن مواقفِ أصدقاء كثرٍ لهُ من كتاب وشعراء وفنانين. ثمّ، ألم يقل الراحلُ «أمريكا هيَ الطاعون .. والطاعونُ أمريكا»؟!


هذا دليلٌ دامغٌ على موقفه المتوقع فيما لو كانَ حياً.


وعلى النقيضِ طبعاً، يرى أنصارُ الثوراتِ العربية وحقوق الإنسان، أنّ الراحلَ سجّلَ مواقفهُ منذُ زمنٍ بعيد، وتركيبتهُ أساساً لا تشبهُ بحالٍ من الأحوال تركيبة أدونيس مثلاً. فالرجلُ لم يتعالى على قضايا الناس وحرياتهم الفردية والجماعية. ألم يكن الراحلُ ممن ساهموا بتحريكِ قضية الشاعر السوريّ فرج بيرقدار حينَ كان سجيناً لدى نظام الأسد، وساهمَ بإطلاقِ حملةٍ دوليّة للمطالبة بالإفراج عنه، ما لم يقبل أدونيس المشاركة فيه بحجة أنهُ لا يعرفُ شاعراً بهذا الإسم؟!


الدلالاتُ على نزوع محمود درويش للحرية ليست قليلة، وأنصارُ الحريّةِ يعرفونها جيداً، ولن يجدوا صعوبةً في تذكرها.


على أي حال، مرّت ذكرى وفاةُ الرجلِ بهرجٍ ومرجٍ أقلّ من المعتاد، وهذا شيء إيجابيّ عموماً حينَ يتعلّقُ الأمرُ بسؤالٍ لا يملكُ جواباً عليه سوى رجل ميت!


أما شوكةُ السؤال التي ستبقى عالقةً في حناجرِ الكلّ، فلا حلّ لها مع الأسف، وعلى الجميعِ أن يتعاملَ مع الأمرِ بشكلٍ موضوعيّ، بل وإيجابيّ أيضاً، إذ هل ثمّةَ ما هوَ أجمل من إحساس أنّ شاعراً كتبَ لنا وعنا طوالَ حياتِهِ لم يكن كاذباً؟! يا للندرة!


وإذا اشتركَ المؤيدونَ للربيعِ العربيّ وثوراتِه، مع المناهضينَ له ومشيطنيه، في السؤال السابق، فإنّهم ولحسنِ حظّهم، وحظّ محمود درويش طبعاً، يستطيعون الاشتراك في الجوابِ أيضاً:


محمود درويش .. ماتَ قبل أن يخذلنا!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +