حياة توثِّقها المجازر

حياة توثِّقها المجازر

لا يحب السوريون التواريخَ الدقيقة، لذا كانوا يوثِّقون أحداثَ حياتهم بربطها بأحداثٍ أخرى، إذ لقد وُلِدَ الابن الأكبر للعائلة بعد عملية الجد الأخيرة، ونجح الابن الأصغر في البكالوريا بعد زواج الابن الأكبر.


بعد اندلاع الثورة، سهلّت أسماء الجمع مهمة السوريين، أتذكر تماماً أن أحد الأصدقاء ظلَّ عاماً كاملاً يروي كيف تزوج  ليلة الجمعة العظيمة، وكيف خرج أحد الأصدقاء من المعتقل قبيل جمعة أطفال الحرية. وكيف صارت الحياة تنتقل من أسبوع إلى آخر، بارتباط وثيق بالجمعة القادمة.


قرَّرَ النظامُ أن يقلب معيار التوثيق هذا، بابتكاره المجزرة.


كانت مجزرة الساعة ومجزرة الخالدية بدايةً لعهد توثيقنا الجديد، فارتبطت حياتنا وأحداثها بتلك المجازر، وتحوَّلتُ أنا الإنسانةُ المرتاعة، الساكنةُ في مناطقَ آمنة، إلى حالة العجز المطلق التي تجعلني أنهار مع كل مجزرة جديدة. ومع قناعتي بأنني لا أستطيع تقديم شيءٍ للضحايا، أقلعتُ عن امتناعي عن مشاهدة صور العنف، لأنني اقتنعت أن ما يمكنني تقديمه فقط هو ذاكرتي البصرية، أن لا أنسى.


جاءت مجزرة الحولة، وشاهدتُ مع الآخرين صور الأطفال الذين بالوا في ثيابهم ذعراً قبل أن يُقتلوا بوحشية. تلتها مجزرة حلفايا، التي جعلت كثيرين منا يقلعون عن أكل الخبز لأيامٍ بعد مشاهد الخبز المدمى. ثم كانت التريمسة، وكنت وقتها قرب أمي التي كانت تمسدُ شعري وكلتانا نبكي.


مجزرة جامعة حلب، كانت اللحظة الفاصلة في حياة عائلتي، إذ قَلَبَت كياننا رأساً على عقب، وحمَّلتنا ما لا طاقة لنا باحتماله، فَفيها استشهدت عمتي المهندسة سوسن حقي، وتغيّرت حياتنا بعد ذلك، كما هو حال حياة غيرنا من السوريين بعد مجازر أخرى. بعد مجزرة الجامعة، خرجتُ من سوريا، وبعد مجزرة الجامعة نسينا كيف كنا نعيش قبلها.


مجزرة البيضا، كانت المجزرة التي أرغمتُ نفسي على مشاهدة جميع صور ضحاياها، وكنتُ حينها وحيدةً في بيروت، كنتُ أشاهدُ الصورَ وأبكي. مرضتُ، وبكيتُ، وعَجِزت.


مجزرة جديدة الفضل، كانت المجزرة التي قُتِلَ فيها أخو صديقٍ وابنه بسكاكين أمام عين ابنته التي ظلَّت على قيد الحياة.


بعدها، مرَّت المجازر متشابهةً، مؤلمةً، توثِّقُ لما قبلها ولما بعدها، دوما، أريحا، زملكا، تل رفعت، دوما مجدداً، إدلب، دير الزور، المو حسن...


صار توثيق حياتنا كَسوريين يمرُّ مجزرةً إثر مجزرة، إلى أن قَلَبَت كياننا مجزرةٌ جديدة، مجزرة الكيماوي في الغوطة. بعد تلك المجزرة أصبحتُ أعجزُ عن الحزن، أصبح الغضبُ سمةَ حياتي. أغضب أنا وغيري، ويتوسع الشرخ بيني وبين السوري الذي وَقَفَ مع النظام، وكان النقاشُ الذي دار بيني وبين أحدهم بعد مجزرة الكيماوي هو المرة الأخيرة التي استطعتُ فيها حَملَ نفسي على نقاش موالٍ. قال لي أن النظام لم يرتكب المجزرة، فأخبرته أنه حتى لو لم يرتكب المجزرة فإنه هو المسؤول عن سلامة كافة مواطني الدولة، وأن أي دولةٍ أخرى يقتل فيها «إرهابيون» ألفي مواطن، يستقيل حكامها ويعتذرون فورًا عن تقصيرهم.


منذ مجزرة الكيماوي، فقدنا قدرتنا على ربط حياتنا بأي شيء، فلم تعد حياتنا تجري فيها أحداث تستحق التوثيق، لم نعد بشراً طبيعيين، انقرضَ إحساسنا بالزمن، وبالألم.


جاءت مجزرة دوما منذ عدة أيام لتوقظ شعورنا بالألم، هكذا ودون مقدماتٍ هاجمَنا عجزُنا وألمُنا، هاجمتنا المجازر السابقة كلها. فقدنا قدرتنا على اللامبالاة، وعاد غضبنا ليستعر مجددًا على الرغم من أن مجموع ما كان يموت يومياً من السوريين يوازي عدد قتلى المجزرة، ذلك أن عودة صورة الأكفان الممتدة على الأرصفة، والسوق الذي تمزقت الأجساد فيه، والخضار المتناثرة، أشعلت أرواحنا من جديد.


سنعود للقول، حدث ذلك بعد مجزرة دوما الأخيرة، سنوثِّق حياتنا من جديد، سنشاهد الصور ولن ننسى. لكن هذا الحمل الثقيل يقبع على أكتافنا، يشوِّهنا ويحوِّلنا إلى أشباه بشر، يسيرون يأكلون، يشربون، ينامون، ولكنهم يعجزون عن العيش وينتقلون من مجزرةٍ إلى أخرى.


أَنظرُ من شباكي المطل على مدينةٍ أوروبيةٍ جميلةٍ مسالمة، وأفكر، كيف سنعود بشراً؟ ومتى؟


أعتقد أننا سنعود للعيش عندما ترتبط حياتنا مجددًا بأحداثٍ جديدة، مختلفة، لا موت فيها، لا غضب، لكن ذلك لن يتحقق إلا بمثولِ القتلة أمام محاكم سورية عادلة، وسنقول حينها حدث ذلك بعد محاكمة مجرمي الكيماوي، حدث ذلك بعد صدور الحكم على مرتكب مجزرة دوما.


سنبقى نوثِّق حياتنا بلا تواريخ، لن يبقى تاريخٌ إلا قبل الثورة، وبعد الثورة.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +