عن آب الذي أعرفه

عن آب الذي أعرفه

إنهُ آب مجدداً، إنهُ آب اللهّاب!


قبل ثلاث سنواتٍ كاملة خرجتُ من سوريا. ذلكَ الخروجُ السريعُ الممضُّ الثّقيل الذي لا يُنسى. مقسوراً، ضعيفاً، هزيلاً، ومرتبكاً غيرَ مصدّقٍ خرجتُ، ومنذُ ذلك الحينِ أحاولُ الوقوف على كلتا قدميّ فوق الحبلِ مثل بهلوانٍ مبتدئ!


كانَ آب 2012 ثقيلاً، جرحاً شخصياً وخاصاً وسطَ جروحٍ عامةٍ تطغى على المشهد، لكنّ كلّ جريحٍ يعتقدُ، ولديهِ الحقّ في ذلك، أنّ ألمهُ هو الأشدّ، ذلكَ ألمُهُ هو، ألمهُ الذي لا يُقاسمهُ إياهُ أحد. ما دفعني للاعتقادِ بأنّهُ لا يُمكنُ أن يمرّ عليّ آبٌ آخر بقسوة ذاك!


يرنُّ هاتفي، يصلُ اتصالٌ من بيروت المتاخمة للمأساة صبيحة يوم 21 آب 2013، أي بعد خروجي بعامٍ وأيامٍ ثلاث، بينما أنا غارقٌ في نومٍ هادئٍ في ستوكهولم ذات الـ آب المعتدل. أذكرُ صوتَ صديقتي جيداً مثلما أذكرُ دموعَ أبي في آبَ الذي سبقه، أذكرُ صوتها منذُ عامين حتى اللحظة كأنني أسمعهُ الآن، باكياً منهاراً: «شفت الولاد؟!»


أسكتُ لثانيتين... وأبكي بقية النهار، وبقيّة آب، وبقيّة الشهور والسنوات، كلما عدتُ ورأيتُ صور أطفالِ الغوطة الشرقية، بوجوههم الصفراء، وعيونهم الصفراء، وأفواههم ذاتِ الزبدِ الأصفر، أبكي وأنا أرى إلى هذا العالم يتحوّلُ إلى الصفرة، مثل وجهي ومشيي وسلوكي!


كلّ شيء اصفرّ بعدها، المدن، الوجوه، الملابس، صور الفايسبوك، والساحاتُ العامّةُ في العالم حيث تجمّع السوريونَ ومناصرو انتفاضتهم حاملينَ لافتاتٍ ولوحاتٍ عليها شعاراتُ الأسلحة الكيماوية الصفراء.


ومجدداً، يسودُ اعتقادٌ بأنّ تلك اللحظة كانت لحظة تبدّل السوريين، داخلاً وخارجاً، تبلّدت المشاعر، وانتهى الظنّ بأنّ شيئاً ما يمكنُ أن يُقدّمهُ العالمُ نصرةً للضحايا، فلا أكثرَ من الأسلحة الكيماوية!


لكنّ آب يعود، لا تخلُّ الشهورُ بمواعيدها ولا بصفاتِها، يحرصُ على الحضورِ بكاملِ صفاتِه، بكلّ ما اعتدناهُ منه، الألمُ ذاتهُ، الإحساس بالصدمة، نعم، من يصدّقُ أنّ السوريينَ ما زالوا يُصدمون؟! الخسرانُ والعجز وبقيّة المفردات التي لم تتغيّر منذُ أكثر من خمسينَ شهراً!


ليست مجزرة دوما هيَ الأكبر، ليست الأعنفَ منذُ بدء الثورة، ومن المؤكّدِ أن عدد الضحايا يومياً على امتدادِ الجغرافيا السورية لا يقلُّ كثيراً عن عدد ضحايا دوما، بل ويزيدُ أحياناً. لكنّنا كبشرٍ نتأثرُ بالصورة، نتأثرُ بالكثافة. وفي دوما كان المشهدُ كثيفاً، كلّ شيءٍ كانَ كثيراً على حدقتين. كيفَ لبؤبؤين أن يريا كلّ هذا دفعةً واحدة، في مساحةٍ جغرافيةٍ واحدة؟! كيف لنا أن ننجو من الصورة؟


هنا لا مكانَ للعقلانية، لا مكانَ للإحصاء، لا وقتَ للانتظار، الدمُ لا ينتظرُ أحداً، إنهُ يتخثّرُ بسرعة البرق، يجفُّ ويتجمّد ثمّ ييبس وتُشطفُ الشوارعُ، والذواكرُ ربما، فتعودُ الحياةُ إلى دورتها الرتيبة.


دمُ السوريينَ يتخثّر، لا مزاودة على أحدٍ في هذا، ولا انتقاصَ من أيّ ضحايا في أيّ مكان، ما زالَ يسيلُ ويتخثّر والكوكبُ يتابع طريقه بين الكواكبِ كأنّ شيئاً لم يكن!


منذُ أيامٍ، منذُ مجزرة دوما تحديداً، لا يحضرني سوى المشهدُ الأخيرُ من مسرحيّة «بالنسبة لبكرا شو» لزياد الرحباني، حيثُ ينتحرُ «زكريا» ملقياً بنفسهِ من شباكِ المطعمِ الذي يعملُ فيه وزوجته، بعد أن ضاقَ ذرعاً بالحياةِ التي أجبرتهُ على قبول عمل «ثريّا» بالدعارة بسبب ضيق ذات اليد. لحظاتٌ فقط بعد أن ينتحرَ، ونعودُ نسمعُ أصواتَ الملاعق والشوكِ والسكاكينِ والصحون، تعودُ الموسيقى إلى المطعم، ويعودُ الجميعُ إلى أطباقهم.


حسناً يا زياد، حسناً أيها العالم، نحنُ الآنَ لا نطلبُ الكثير، نريدُ أن نحيا، لنصلَ إلى مرحلةِ الانتحار بسبب ضيق ذات اليد! أهذا كثيرٌ علينا؟!


نعم، لا نريدُ شيئاً من هذا الكوكب أكثرَ من أسبابٍ للانتحار الطبيعيّ، هل ثمّةَ انتحارٌ طبيعيّ؟! نريدُ هذا فقط، قبل أن يعودَ الجميعُ إلى أطباقهم!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +