لكنهم يواصلون ارتكاب المجازر

لكنهم يواصلون ارتكاب المجازر

الإدانةُ والشجبُ ولعنةُ التاريخ وانعدام الجدوى وتلقي ردود الفعل العنيفة، لكنهم يواصلون مع ذلك، وبعد كل ذلك، ارتكابَ المجازر. لا أعني النظامَ السوري وحلفاءَه ومُسلحيه وطياريه فقط، بل أعني عموم البشر الذين لم يكفّوا، ولا يبدو أنهم سيكفّون عن ارتكاب المجازر.


عشراتُ آلاف النقوش والكتابات والتسجيلات عن المجازر منذ بدء الحضارة البشرية، عن أهوالها وآلامها، وعن وحشية مرتكبيها ومصائرهم أو مصائر دولِهم، لكن الأمر لا يتغير كثيراً. ترتفع سلطات الدول والممالك على جماجم البشر وعذاباتهم، وتنهار على جماجمهم وعذاباتهم أيضاً. لم يحدث أن قامت سلطةٌ دون مجازر، ولم يحدث أن بقيت سلطةٌ إلى الأبد، ولم يحدث أن زالت سلطةٌ دون أن يرافق زوالها مجازر.


للمجزرة وظيفةٌ في تأسيس السلطة، ووظيفةٌ في الدفاع عنها ومحاولةِ تأبيدها الفاشلة حتماً، وهي تؤسِّسُ لمجازرَ مضادةٍ حتماً أيضاً. والمجزرة تكون عبثيةً في مراحل انهيار السلطة، عبثيةً بالنسبة للسلطة التي تنهار، لأنها لن تحميها في نهاية المطاف وإن أطالت عمرها قليلاً، لكنها تلعب دوراً تأسيسياً بالنسبة للسلطة التي ستليها.


لنغادر التعميمات قليلاً ولنتحدث عن بلادنا المنكوبة على وجه الخصوص، لقد لعبت مجزرة حماة دوراً تأسيسياً فيما يتعلق بسلطة السلالة الأسدية، ودوراً تأسيسياً في محاولة تأبيدها الفاشلة. واليوم ترتكب السلالة الأسدية المجازر دفاعاً عن ما تعتقده سلطتها الأبدية، وتؤسِّسُ لمجازر مضادة أيضاً، ويبدو أنها ستكون تأسيسيةً فيما يتعلق بالسلطة التي ستحكم لاحقاً أولئك الذين تعرضوا للمجازر، وأولئك الذين ارتكبوها أو تعاطفوا مع مرتكبيها وقدموا لهم ما يلزم من دعمٍ ومساندة.


لا يدرك مرتكبوا المجزرة المباشرون، أعني الأيدي المنفذة من طيارين ورماة مدفعية وصواريخ وحملة بنادق وسكاكين وبلطات، العمق الحقيقي لمجازرهم. فهم يعتقدون أنهم يثأرون أو يقتلون خصومهم أو يدافعون عن أنفسهم أو أي من هذه الاعتبارات المحزنة الفارغة، أو ربما يكونون مجرد مرتزقةٍ يقتلون لقاء كمٍ تافهٍ من المال والسلطة. لكن أولئك الذين يعطون الأوامر ويخططون ويختارون الأزمنة والأمكنة والضحايا، هم الذين يعرفون عمق مجازرهم وأهدافها الكبرى، هم الذين يفكرون «مترفِّعين» عن الثأر والغضب والمكاسب الصغيرة، ويخططون للمذبحة بعقلٍ باردٍ يحسب الربح والخسارة. إلا أن الأخيرين أنفسهم لا يدركون بدورهم الآثارَ البعيدة لما يرتكبونه، ولا يدركون أن هذه المجازر قد تُوَظَف لاحقاً في تأسيس سلطةٍ جديدة على أنقاض سلطتهم، ربما تكون سلطة خصومهم في نهاية المطاف.


ما أعنيه أنه ليس ثمة مجزرةٌ تحدث وتنتهي، بل تبدو حياة البشر على هذا الكوكب التعس سلسلةً من المجازر المترابطة، المجازر التي تُستخدم دائماً في بناء السلطة والتأسيس لانهيارها في الوقت نفسه، وإذا كان يبدو أن الغربيين قد أسَّسوا سلطاتهم اليوم على شيءٍ غير المجازر، الديمقراطية مثلاً، فإن هذا ما يبدو عليه الأمر فقط، لأن الحقيقة أن الدول الغربية تأسست على مجازر لا مجال للخوض في حيثياتها الآن، ويبدو أن هذه المجازر قد تؤسِّس لانهيار السلطات الديمقراطية هناك، ولعلَّ العقودَ القليلة القادمة تكون كفيلةً بمعرفة ما سيحدث.


ولكن ما الذي يمكننا فعله بين مجزرتين؟ أعني أنه إذا كانت دورةُ حياة البشر هي سلامٌ مؤقتٌ يفصل بين مجزرتين، فما الذي يمكننا فعله في هذا السلام المؤقت؟ وهل يمكن للبشر الذين يريدون العيش دون سفك دماء، ويفشلون في كلِّ مرة، فعلُ شيءٍ حيال المذابح والعنف وسفك الدماء الذي لا ينتهي؟


لا يبدو أن ثمة إجابةً واضحةً على سؤال كهذا، لكن في الوقت الذي يواصل فيه جيش السلالة الأسدية حصد أرواح الثائرين عليه وعائلاتهم، وفي وقتٍ يفكر فيه أولئك الرازحون تحت النار في سورية فيما يمكن فعله لرد الموت عن أنفسهم وعن أحبائهم، أو للانتقام والثأر، فإن ما يمكن للسوريين الذين يعيشون بعيداً عن المجزرة فعله هو قليلٌ من الصمت في حضرة الأرواح التي أزهقتها طائرات جيش اللصوص والقتلة، وكثيرٌ من التفكير في الوقت نفسه، التفكير فيما يمكن فعله كي لا تستمر المجزرة وقتاً أطول، وفيما يمكن فعله في السلام اللاحق لهذه المقتلة الرهيبة التي تدور فصولها في الديار الشامية، علَّ حياة السوريين تصير أفضل مما كانت عليه قبل بدء الثورة.


وحدها حياةٌ أفضل بعد نهاية الحرب، يمكن أن تعني أن هذه التضحيات العظيمة لم تذهب هدراً.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +