مسرح الرّعب

مسرح الرّعب

«لماذا قد أشاهد عرضاً مسرحياً هنا؟! يكفيني المرور بحاجزٍ عسكريٍ وسط العاصمة لأشعر بالضيق، لا داعي للعروض»،


هذا ما قاله واحدٌ من قامات التدريس المسرحي في سورية لطلابه. فالمسرحُ بدأ بالتدحرج منذ زمنٍ بعيد في منحدرٍ قاسٍ، ولم نتمكن حتى الآن من معرفة قعرٍ له، لنحدد بذلك مستوى الرداءة التي آل إليها.


يتمترسُ كل عرضٍ فاشلٍ الآن بمصطلح المسرح التجريبي أمام نُقَّاده، في حين نشاهده أمامنا يحوِّل خشبة المسرح إلى سيركٍ للتهريج مثل مسرحية «هوب هوب»، أو إلى منبرٍ للتملق واستهلاك المشاعر المعلبة حول المسرح والوطن مثل عرض «حَدَثَ في يوم المسرح».


والمعروف عن المسرح التجريبي أنه قائمٌ على فكرة تجاوزِ كل ما هو مطروح، وخلق وسائل تواصل جديدة مع الجمهور، وليس تقديم كل ما يحلو لنا وعلى عفو الخاطر. علماً أن أهم تجربةٍ في هذا المجال كانت للراحلين سعد الله ونوّس وفوّاز الساجر، واللذين استمرَّ التضييقُ عليهما حتى توقف المشروع بعد تقديمه لعدة عروض ناجحةٍ كانت بمثابة بصيصِ الأمل الوحيد الذي يبشر بنهضةٍ مسرحية، ليس فقط في سورية، بل وفي البلاد العربية قاطبةً.


لكن الرجلين توفّيا باكراً، وتمكن النظام من التعتيم على حياة الساجر أولاً، والذي كان يؤمنُ وشريكه ونوس بقدرةِ المسرحِ على التغيير، وأراد أن يوازنَ بين النص والحركة في العرض، ليضع بذلك حداً للمسرح الخطابي الذي كان سائداً، مما أثار حفيظة السلطة في سورية، وكأن تَحوّلَ الجمهور من متلقٍ للخطابات المنفوخة بالشعارات، إلى جمهورٍ يحاكم مدى تطابقِ النص مع الحركة، سيكشف الهوةَ الزمنية السحيقة بين وعودِ السياسيين وأفعالهم، وهم المتأخرون عن تنفيذها بملايين السنين الضوئية.


أمَّا ونوس، فقد كان يرى أن حرية الكاتب والجمهور فضاءان متلاحمان لا يمكن أن يوجدَ أحدهما دون الآخر، ورَبَطَ ضمنياً بين النظام الشمولي والحاجة الاقتصادية التي جعلت من سورية دولةً استهلاكيةً من جهة، وبين تهميشِ المثقفينَ عن طريق زيادة منابر النشر لغير المستحقين، ليتحوَّل المجتمع بذلك إلى الاستهلاك الثقافي أيضاً من جهةٍ أخرى.


كان ونوس يسعى إلى «تسييس» المسرح؛ وتحريض الجمهور على البحث عن حلول ثورية واعية لمشاكله الوجودية تقود بالنهاية إلى التغيير الجذري، لكنه قضى عشرَ سنواتٍ من عمره القصير مُعرِضاً عن الكتابة ليأسه من أمكانية التغيير أمام هذه اللطمَاتِ الرجعية القاسية التي كانت تُجابَه بها محاولاته المتكررة، ليعود بعد ذلك لمقاومة مرض السرطان بالكتابة، مُكَثِفاً لُغَتَه وجاعلاً من الكلمة تقوم مقام الفعل الذي حُرِمَ من تجسيده على خشبةِ المسرح، ليَصدُرَ بعد موته قرارٌ أمنيٌ يقضي بمنع عرض مسرحياته في سورية.


هكذا يُهمَّشُ أهم مسرحيَّين مجدّدين في تاريخ سورية الحديث، بينما تُمنح التصريحات الأمنية لعروضٍ هي أشبه بنشرة أخبارٍ فنية مواليةٍ للنظام. وبينما ينجحُ المسرحُ السياسي التفاعلي في أوروبا «الممسوحة عن الخارطة» بنقل المُشاهدِ من المراقبةِ إلى الفعل، تحت شعار المخرج روميو كاستيللوشي «المشاهدة لم تعد عملية بريئة»، ينجح المسرح السوري اليوم بتطبيقها لكن برؤيةٍ خاصة، فالمشاهدة لم تعد عمليةً بريئةً حقاً، لأن المُشاهدَ هو الضحية الأولى، والبطل التراجيدي الذي يخرج مقتولاً من الخيبة بعد نهاية كل عرض.


إذا كان لا بُدَّ من تسمية هذا النوع من المسرح، فإنني لا أجد مصطلحاً يَفيه حقَّه أكثر من «مسرح الرعب الأمني».


دولةٌ تقبض على ثقافتها بمثلِ هذه اليد الأمنية كان يجب أن تمتلك أيديولوجية متماسكة، لكن «المجزرة» التي نراها الآن هي المشهدُ المسرحيُ الوحيدُ المتماسكُ ببشاعته، سواء أكان من تمثيل النظامِ أو المتطرفينَ على امتداد هذا الوطن.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +