البيئة المتحوّلة

البيئة المتحوّلة

كانت أشبهَ بالحكايةِ المكشوفةِ للجميع، ورغم ذلك يتظاهرُ الجميع بتصديقها، فعائلةُ وأصحاب وبعض جيران أي مديرٍ عامٍ في عهد حافظ الأسد، كانوا يؤكدون دوماً أن هذا المدير ليس فاسداً، وكانوا يستخدمون تعبير «لو خليت خربت»، لا بل إنه هو نفسه كان يشتكي من الفساد الذي يمنعه من تطوير آليات العمل في مؤسسته.


غير أن هذا المدير غير الفاسد، كان يقوم بتغيير ديكور منزله كل سنةٍ تقريباً، ولا يقتصر الأمر على تغيير الأثاث فحسب، بل يتعداه إلى هدم الجدران والتوسّع والتمدد. وفي تلك الفترة كان هناك مسؤولون كبارٌ لدرجةِ أنهم لا يهتمون بحديث الناس عنهم، ولا يخافون المساءلة، وكانوا كالعائلات الحاكمة طلقاءَ الأيادي في شراء العقارات والسيارات الفخمة والإسراف العلني، في حين كانت طبقة «صغار الكسبة» في سُلَّم الفساد لديها حساباتٌ أخرى تمنعها من إظهار فُحشِ ثرائها، حرصاً على السمعة وخوفاً من المساءلة.


فهؤلاء كانت مداخيلهم عاليةً، لكنهم لا يستطيعون إظهارها، فاقتصر الأمر عندهم على تغيير الديكورات وإظهار بعض الكماليات التي تعبِّر عن الوجاهة والتميّز عن الطبقات الأخرى في ذلك الزمان، كَعرضِ المناديل الورقية «المحارم» والموز مثلاً، وهي مواد كانت حلماً بالنسبة للسوريين العاديين في تلك الفترة التي اصطلح على تسميتها بالحصار الاقتصادي لسوريا.


لاحقاً، ومع إقرار القانون رقم 10 وبدء المشاركة الاستثمارية بين مسؤولي النظام والتجار والبرجوازية المحلية، بدأت تلك الثروات بالظهور يرافقها تغيرٌ في سلوك أصحابها، ليصل الأمر في عهد بشار الأسد إلى الانفلاش الكامل، بل حتى التباهي بشطارة هؤلاء، والتهكم على القلة التي كانت في مواقعَ تسمحُ لها بالسرقة والنهب، ولم تفعل ذلك.


ربما كانت البيئة الساحلية في البلد أكثر تأثراً من غيرها بتلك التحولات، فَمَع الانتقال من الكيتش الشعاراتي لعهد الأسد الأب الى الخواء في عهد الابن، لم يَعُد للكثير من القيمِ والمفاهيم القديمة دورٌ أو معنىً، فكان لا بدَّ من ملء الفراغ بإعادة اكتشاف الذات عبر هويةٍ علويةٍ كانت مقموعةً في عهد الأب، لصالح العروبة البعثية كجامعٍ وطنيٍ وحيد.


هكذا بدأت الأسماءُ تتحول من نضال وثائر وعروبة وكفاح، إلى حيدرة وقسوَرة وجعفر، ولم يعد المثال الأعلى هو  الضابط الشجاع أو الأديب، بل رجل الأعمالِ الملتبسة مصادرُ ثروته، وقد ترافق ذلك مع صعودِ ظاهرة حسن نصر الله كقائدٍ شيعيٍ كاريزماتي مُتَحَدٍّ لإسرائيل. وانطفأ نجم  كتب دار التقدم، والأدب الروسي والغربي المترجم، وبدأت بالظهور كتبٌ دينيةٌ كان بطلها الأثير محمد التيجاني السماوي، وهو كاتب تونسي متشيّع.


وعلى الرغم من ذلك التحوّل باكتشاف العلاقة مع الشيعة والتباهي بها، كانت أغلبية هذه البيئة مع المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي، ورغم أن القوة الواضحة في تلك المقاومة كانت السلفيةَ الجهاديةَ السنيّة التي استهدفت المدنيين الشيعة أكثرَ مما استهدفت جنود التحالف المحتل للعراق، إلا أن ذلك لم يَحُل دون تأييد البيئة الساحلية لهذه المقاومة، فمصلحةُ النظام السوري منها غلبت على أي تعاطفٍ مذهبيٍ ممكنٍ مع الشيعة العراقيين. ربما كانت البيئة الساحلية تنظر إلى نفسها كعلويةٍ أو قريبةٍ من الشيعة، ولكنها في النهاية كانت تعتبرُ نفسها طائفة سوريا الأسد بالدرجة الأولى.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +