أشقّاؤنا الأشقياء

أشقّاؤنا الأشقياء

قبلَ نحو شهر من الآن، كتبتُ في افتتاحية ملحق «أشكال ألوان» أنّ الملحقَ يُقدّمُ دعوةً مفتوحةً للشقاوة، لأنّ الأشقياء هم أبناء الحياة، مع الاعتذار من جبران!


كنتُ قد تابعتُ بما أتيحَ لي من وقت مظاهرات ساحة التحرير في بغداد مؤخراً، وعلى الرغم من إعجابي الشديد بشعاراتها ولافتاتها، إلا أن الأمرَ ظلّ في حيّز المتابعة عن بعد، إلى أن زرتُ الصديق «ابراهيم عبد الملك» في منزله في ستوكهولم، وهو شاعرٌ ومترجمٌ عراقيّ يعيش في السويد منذُ عشرين عاماً. وابراهيم بطبعهِ شخصٌ هادئٌ، خفيضُ الصوت، يُجيدُ الاستماعَ أكثرَ مما يجيدُ الكلام. لكنّ الرجلَ يومها كانَ مختلفاً، شخصاً آخر، ولوهلةٍ شعرتُ أنني ألتقيهِ للمرّة الأولى، صاخباً، مندفعاً، وكأنّ روحاً جديدةً وضعت أوزارها في جسده. فتحَ مكبّراتِ الصوتِ وتركَ الموسيقا تأخذُ مكانها في الجلسة، ثمّ بدأ حديثهُ عمّا يجري في العراق، حدّثني عن الشعارات، وعن وعي المتظاهرين وسلميّتهم ومدنيّتهم، وأراني صورَ اللافتاتِ التي يحملُها المتظاهرون، وكأنهُ قد فوجئَ بجيلٍ كاملٍ أيقظَ داخلهُ إيماناً خبيئاً أو يائساً. ثمّ وكلازمةٍ للحديثِ أطلقَ التساؤلَ الأصعب: لماذا أنا هنا؟! يجبُ عليّ السفر إلى بغداد! تكشّفتِ الوصفةُ إذاً، الشارعُ وأشقياؤهُ يفعلونَ فعلهم، مثلما حدثَ تماماً في كلّ بلدانِ الربيعِ العربيّ.


بعدها صارت متابعتي لما يجري في بغداد حثيثةً ويومية، أتواصلُ مع الأصدقاء هناك، وتصلني رسائلُ صوتيّة من قلب التظاهرات، وينقلونَ لي الصورةَ كما يرونها.


أيامٌ قليلة فقط، قبل أن يأتي صوتُ أشقياءٍ آخرين من مكانٍ آخر، وأيّ مكان، إنّها بيروت!


في زيارتي الأخيرة لبيروت قبل نحو شهر، قلتُ إنني لم أرَ وجوهَ الأصدقاء اللبنانيين كالحةً ومُحبَطة كما في هذه الزيارة، كانت أزمةُ النفاياتِ في عزّها، والمدينةُ تجتاحها أكوامٌ من أكياسِ القمامة. كان قد أقلّني من المطار وقتها الصديق «أحمد محسن» الذي يعرفُ حجمَ تعلّقي ببيروت، وأنبأني في الطريق أنني لن أحبّ المدينة هذه المرّة. لم يُفلح طبعاً، لم تختلف مشاعري تجاهها، لكنّني كنتُ حزيناً على مآلها. ثمّة مفاجأة تمسحُ وجوه الناس، أولئكَ الذين لم يعتقدوا للحظةٍ أنّه يُمكنُ للسمسرةِ السياسية أن تودي بمدينتهم إلى هاويةٍ كهذه، وأن يصيروا معرّضينَ بشكلٍ حقيقيّ لأخطارِ الأوبئة! أوبئة في بيروت؟!


نزلَ الشبابُ إلى الشارع أخيراً، لوحاتٌ لا تختلفُ عن اللوحاتِ التي ارتسمت في كلّ مُدن الربيع العربيّ، حركة تصرخُ وتُطالب، ومناوراتٌ والتفافات من السياسيين الذي يبدو أنهم بدورهم يشعرونَ بارتباكٍ إزاء ما يحدث، ذلكَ أنّهُ يتمثّلُ بمطالبَ حياتيّة تجمعُ كلّ اللبنانيين على اختلافِ أطيافهم السياسية والدينية والمذهبية. هنا تبدو الصورةُ أكثرَ وضوحاً، ليست الأزمةُ أزمةَ حريّات وحسب، إنها حياةٌ مسمومةٌ بكلّ معنى الكلمة. حياةٌ يدفعُ طيفٌ عريضٌ من الناسِ ثمنها ولا يعيشونها كما يستحقّون، بينما تنعمُ شريحةٌ «أوليغارشية» بميزاتها بدونِ أيّ ثمن.


الأشقياءُ في الشارعِ إذن...


لم يكن يسيراً عليّ، ولا على أيّ سوريّ على ما أعتقد، إعلانُ تأييدٍ أو معارضة، لاعتباراتٍ كثيرةٍ يصعبُ ذكرها الآن. سوى أنّ الأمرَ بالنسبةِ لي لا يحتاج إلى قراءةٍ سياسية، الأشقياءُ يصرخون، وصراخهم ليسَ ترفاً، وقد كنّا منهم قبلَ أربع سنوات. ثمّ إنّ شيئاً أساسياً يجعلُ التفاعلَ مع أولئكَ مسألة تفوقُ القدرةَ على ضبطها، وهو الشارع، إذ ننظرُ الآنَ كسوريينَ إلى الشارعِ بعينٍ نوستالجيةٍ خالصة، نسترجعُ الشعارات، الأغنيات، ألحان «القاشوش» التي حضرت أيضاً، الهربَ من الأجهزة الأمنية، اللافتات، وكلّ المفردات التي جُرِّدنا منها بفعلِ العسفِ عزيز النّظير الذي استخدمهُ نظامُ القمعِ الأسديّ، وكلّ ما خلّفهُ وتلاهُ من فصائل إجرامية متطرفة.


كانَ صعباً بعد كلّ هذا ألّا نبكي ونحنُ نرى أشقّاءنا في الشقاوةِ يُعيدونَ لنا ما فقدنا الأملَ فيه؛ الشارع!


قبل أعوام، وأثناء تواجد الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم في سوريا، حاولتُ مفاجأتهُ بلقاء بعضِ أصدقائهِ القدامى أو الاتصال بهم، فمرّةً اصطحبتُ الملحّن العراقيّ كوكب حمزة إليه، ومرّةً أخرى اتصلتُ بالشاعر مظفر النواب وأعطيتُ السماعةَ لـ «عمّ نجم»، كانَ النوّابُ مريضاً، ونجم يحاولُ شدّ أزره، وببساطةٍ وشعريةٍ مصريّةٍ رفيعة قالَ لهُ في السّياق: «شدّ حيلَك يابو عادل، بلاش المرض دا، شدّ حيلَك إحنا محتاجين تُراب رجليك».


أتذكرُ الآنَ هذه الجملة وأنا أرى الأصدقاء في بغداد وبيروت، وأقولُها بلا أيّ حساباتٍ سياسية، إنما لداعي الشقاوة إياه: «شدّو حيلكم ... إحنا محتاجين تراب رجليكم».

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +