تدوير المقدَّس.. المقدَّس السوري نموذجاً

تدوير المقدَّس.. المقدَّس السوري نموذجاً

يكاد العالم كله يحتفي بمقدَّساته من حيث التعامل معها بطهرانية، وبإخضاعٍ كبيرٍ للمُثل المؤسِسة للتربية الدينية أو غير الدينية، كأن تكون وطنيةً مثلاً، عيد الاستقلال أو علم البلد، أو الأثر من أوابد ومكتشفات، أو رموزٌ ساهمت في تنشيط وتوعية الذاكرة الجمعية، أو مرحلةٌ مؤلمة من حياة البلد، أي بلد.


لا يُكتَفى بالتربية وماتشيعه في النفس من ضوابط تُحدِّد العلاقة البيولوجية مع المقدَّس، وتجعله في مصّافِ غير المُطال، المَحمي والمُصان «تحت» الدرجة الاجتماعية أولاً، إنما يتعدى الأمر إلى ما هو أكثرُ ضبطاً وصرامة، والمقصود بالضبط بما تحمله المفردة من راحةٍ وطمأنينة، ما يُلزِمُ الناس قانوناً ونظاماً، والمقصود بالصرامة، الأداةُ أو القوى المحركة للقانون من تشريعاتٍ، ومن ثم روادعَ عينية لايمكن التساهل معها وفيها.


يأخذُ هذا المقدَّس شكل الأمر الواقع بامتثال المتلقين له عبر بوابة القانون، وسرعان مايتحول هذا الأمر الواقع إلى حالة شبه طبيعية، تصبح جزءاً من التفكير والممارسة، لا تمتد فقط على العلاقة مع الأمثلة التي ذكرناها، بل إلى الممارسة اليومية التي لايمكن لأحدٍ أن يكون نبيلاً للغاية، فَيُنَقيّها من المنفعة والآنية، غير أن ذلك الضبطَ مشىَ على كل مفاصل الحياة، وصارت العلاقة مع القانون بحدِّ ذاته -والقانون حكماً مقدَّس- مقدَّسةً وكافيةً لأن تجعل قطع تذكرة القطار، وعدم التبول في الأماكن العامة، فعلان مقدَّسان، وممارستهما ستُعَدُّ بحكم النظرة النمطية للقانون تعدياً وانتهاكاً للمقدَّس.


هذه المقاربة الأولية قبل دخولي على النموذج، إذ حدَّدتُ «المقدس السوري» نموذجاً، لا تنفَّك عن كونها أوليةً وليست حقيقةً صرفة، فإن كنت عَنيتُ الحال في البلدان التي حَكَم فيها القانون، وتشكلَّ مقدسها بالقانون والمراكمة الفعلية للتجربة الحية بوصفها بلداناً عانت -جلُّها- من ويلات الحرب الأممية أو الأهلية البينية، فإنها لاتخلو من اختراقاتٍ للمقدَّس ضمن المقاربة الوصفية آنفاً، والقانون هنا لم يؤهل الناس ليكونوا أنبياء وقديسين، وكذلك لم يقضَ على الشيطان بضربةٍ قاضية، فَلا الناس أصبحوا ملائكةً ولا الشيطان مات، وعليه فإنَّ أيّ ثغرةٍ ممكنة، هي بالضرورة سَتُدخِلُ المسلَّمات المؤمَن بها في نفق «الضلالة» وليس «الهدى».


سورياً لم يكن القانون أبداً، بل كانَ المتنفذون وأصحاب السلطة وأرباب السوابق ممن شكلوا فريقاً متجانساً ظاهرياً، وكثير الخبث والتنكيل والدس فيما بينهم في الوقت نفسه، حتى تهيأت طبقةٌ صغيرةٌ على حساب طبقة «ما تحت»، ترمّمُ خراباً تحدثه «الفئة الضالة»، لتعتاشَ منه ضمن ما يتوفر من فسادٍ «يطوّر أدواته». ومابين المزودجتين هنا هو لبشار الأسد، في حين راحت الأكثرية، ولا أقصد بالأكثرية بالمعنى الطائفي أو غيرهِ، إلى مادون خطوط الفقر والتهميش. وكانت المقارنةُ التي تجريها السلطة بينها وبين الجوار، لإيهام الرعية بصوابية توجهاتها، أو استهدافها من قبل الأعداء التقليديين لكل العرب، هي نفسها، أي المقارنة، كانت «قانوناً» للكفِّ عن المساءلة أو المطالبة بما يفوق إمكانات «الحكومة»، قانوناً يُحصِّنها في مواقعها للدفاع عن «شرف» مواطنيها وسيادتهم. والسيادة هذه كانت تُخترق من قبل الإسرائيليين، العدو التاريخي ل«الأمة العربية الواحدة/ذات الرسالة الخالدة»، لكن الشعار الشمولي نفسه كان يُستَخدم لتكميم الأفواه، قبل الردِّ على العدوّ المنتهك للسيادة في «الوقت والمكان المناسبين».


وهنا سنجد أن المقدَّس، ليس هو المقدَّس بمعناه الحقيقي والمتعارف عليه، فمركزية القمع التي أحلّت نفسها مكان القانون، أحلّت في الوقت ذاته قيماً سلبيةً ومعطلةً لفكر مواطنها بالدرجة الأولى، وللفكر الإنساني عموماً. والإنساني هنا هو ما يَتفقُ على تقدِّيسه من هو في الشرق أو الغرب، أو الذي يسكن مدينةً مشيدة وفق مخطط عمراني، وآخر يسكن في جزيرة نائية، إذا عرفنا أن قراءةً محايثةً للمقدَّس ستحيله بالضرورة إلى الفطرة.


 لا غرابةَ أنّ محقِّقَ مخابراتٍ قالَ لأحد المعتقلين، والكلام قبل الثورة: «إذا كنت كتبت كم كلمة وصرعتنا فيهم، فنحن أكثر مفكري سوريا خرينا عليهم وسجناهم»، وهذا سيقودنا إلى أن ما يحدث من دمارٍ للبنية العقلية أولاً، قبل الأبنية، أحد أسبابه لايعود إلى كثرة المتصارعين وتشظي ثنائياتهم، وإنما يعودُ إلى ما اشتُغِل عليه، بدرايةٍ ومن غير دراية، لتمييع المقدَّس وانتهاكه بشكل صارخ، وأظن أننا بحاجةٍ إلى تشييد علاقة جديدة معه في قادم الأيام، وهذا سيكون أشبه بالثورة الثانية أو ربما الثالثة، إذا كانت هناك أولوية أهمّ!.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +