التراث الذي مثَّل الطاغية بجثته

التراث الذي مثَّل الطاغية بجثته

نشأ نزاعٌ شبه صامتٍ حول التراث منذ الأزل بين المثقف والفنان من جهة، وسلطة الاستبداد من جهة أخرى، لأهمية هذه الأداة في تطوير الشعوب، أو تكريس تخلفها.


فالتراث هو هوية الأمّة، أيّ أمّةٍ كانت، والفنّان يحاول معالجة مفردات هذه الهوية، وتقديم صياغاتٍ معاصرةٍ لها. وعلى صعيد المسرح الذي يدَّعي قدرته على التغيير بسبب طبيعته التي تعتمد على التفاعل المباشر مع الجمهور، فقد جرت عدة محاولاتٍ لحلّ مشاكل اجتماعية ووطنية على خشبته، ومن خلال عرض التراث بأسلوبٍ جديد، يُتيح للمشاهد أن يرى العلّة وأصل المشكلة التي يعيشها الآن في حاضره، مما يساعده على تحديد مواطن الضعف والقوة في مجتمعه، لينتقل بخُطىً واثقة نحو مستقبلٍ لا يكون جاهلاً بدروبه وخفاياه.


هنا تكمن قيمة البناء المسرحي في تقديم نتائج يشعر المشاهد بالانتماء إليها، ويتبناها ويشرع بدوره في معالجتها وتطويرها من خلال حياته اليومية وقراراته الحاسمة في مصير بلاده، كتعاطفه مع ثورةٍ ما مثلاً، والمساهمة بها.


ولأن الجمهور العربي يعتمد على الأمثال التي ورثها من تراثه التاريخي أو الشعبي في تحديد خياراته ومواقفه بشكلٍ كبير، ولأن المسرح يبحث دوماً عن لغةٍ تكون قريبةً من الجمهور، فقد تضافرت كل هذه العوامل لتجعل من التراث صلة الوصل الأشدَّ متانةً بين العرض المسرحي والجمهور. وقد بدأت هذه المحاولات على يد أبو خليل القباني الذي تَميَّز مسرحه بلغة قريبةٍ من الجمهور، وتشخيص العديد من الرموز الهامة في المجتمع العربي والإسلامي على خشبة المسرح، والتفاعل الكبير بين الجمهور والممثل، وهو غاية أيّ عرضٍ مسرحي في العالم كُلِّه.


لكن القوى الرجعية خشيت أن تفقد هيبتها وسلطتها على البسطاء من خلال هذه العروض، فوقفت بوجه القباني متذرّعةً بانتهاك حرمة الأخلاق، في حين كانت المقاهي الدمشقية تحتفي بخيمة كراكوز ذات العروض البذيئة، وذلك حسب وثائق تاريخية.


أما حديثاً، فقد قدم محمد الماغوط شخصيات شعبية ساذجة وبسيطة بشكلها العام، لكنها تؤدي وظيفتها في انتقاد سياسات النظام السوري القمعية، بشكلٍ يُتيح للمشاهد أن يحافظ على أسنانه في حال تبسمه أمام أي دعابة تطال هيبة النظام، في مسرحٍ لا يخلو من رجال الأمن أبداً. كما قدَّم سعد الله ونوس نمطاً يعتمد على التأمل الفردي للتاريخ، في محاولةٍ منه لنقل الجمهور إلى مرحلة التأمل التاريخي الجماعي كما أشار هو ذاته في مسرحيته «منمنمات تاريخية». ولم يكن مصيرهما أفضل من مصير القباني، فالأول عاش جُلَّ حياته في أقبية المعتقلات، والثاني عاش منفياً في عزلته وعتمته على هامش الضخ الإعلامي السوري.


ولا يسعني هنا إلا أن أضحك من شر البلية التي اقترفها النظام السوري قبل عدة أشهر في دار الأوبرا، وهي «مهرجان قوس قزح السوري» الذي احتفى بالتراث الشعبي على اختلاف أطيافه. وقد عرض فيه التراث الساحلي ذاته الذي رمى به النظام إلى الملاهي الليلية ليمعن في تشويهه، بحيث لم يبقى في سوريا إلا قلةٌ قليلة من الموسيقيين الذين يدركون قيمته.


كما عُرِضَت شعائر عيد «النيروز» الكردي، الذي طالما مات العديد من أبنائه كل عامٍ جرّاء تهجِّم قوات الأسد عليهم في مدنهم وقراهم أثناء احتفالاتهم.


لا أعتقد أن هناك أيّ فضيلة في أن يطلق المجرم الرصاص على رأس ضحيته عامداً متعمداً، ثم يهرع به إلى المستشفيات لتقديم العلاج له. والتراث الذي أهدره النظام السوري على مدى عقود، لن يحييه ولن يحميه سوى أبنائه الذين ماتوا في سبيله وهم يرقصون ويغنون في الشوارع.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +