شفويات الموت القادم إلى الشرق 1

شفويات الموت القادم إلى الشرق 1

عندما نقرأ حكاياتِ الفنتازيا، وخاصةً لكتاب أمريكا اللاتينية، ونشاهدُ بعض المسلسلات السورية التي تنتمي إلى السلالة نفسها، ودُعِيت بالفنتازيا التاريخية، مثل مسلسلات «الموت القادم إلى الشرق» و«الكواسر» و«الجوارح»... إلخ. حينها، ورغم انخراطنا في متابعتها، كُنَّا ندرك أنها محض كذبٍ للتشويق لا أكثر. والآن صار عنوان مسلسل «الموت القادم إلى الشرق» وربما «الكواسر والجوارح»، عنوانًا يختصر كل هذا الجنون والمصائب والمصائر.


لوهلةٍ يبادركَ سؤالٌ: هل كان كُتّاب تلك المسلسلات التي عُرِضَت في بداية التسعينات من القرن الفائت، عملاءَ خلايا «إرهابٍ» في طور التكوين؟ أم وكلاءَ أجهزةٍ استراتيجية في مكانٍ من هذا العالم؟ كان مخرجو تلك الأعمال يتباهونَ بالتفنُّن في مشاهدِ القتل والتعذيب وشراسة المعارك، حتى أن مخرجينَ استقدموا فنيي ماكياج ذوي سمعةٍ عالمية، لإظهار مشاهد الدم أكثر مقاربة للواقع.


في سوريا أصبحت الفاجعة واقعيةً، لكنها أشدُّ فنتازِّيةً، وتم الاستعاضة عن التشويق بالحزن الملحميّ، فالقصص التي تناثرت هنا وهناك تُرغِمُ على الإنصات إلى كينونة المصائر المرمية على مشارف الطرقات. قصصٌ رســـمت سطورها الشفوية أقدارُ عائلاتٍ من هذا الزمن، رغم توقف الزمن في كثيرٍ من القصص. سردٌ مثقلٌ بروح الكارثة ورائحة الموت، متعبٌ بإكراهٍ كما العيشُ اليومي في انتظار لاشيء، عائلاتٌ وأفراد، عجائز وصغار وشباب ويافعون تتشابكُ علائقهم مع عناصرِ واقعِ الأحلام والدمار والاندثار، ويقفُ أيّ سيناريو عاجزًا عن مقاربة هذا التشابك. إنها شفوياتُ الأحلام والطموحات والانتكاسات في سياقِ صراعٍ حاولَ تلمُّس التغيير، فذهب إلى سياقاتٍ متفرعةٍ ومتشابكة، منها سياقاتٌ توسَّلَت القطيعة مع البدايات، ومنها سياقاتٌ تسللت خلسةً إلى صُلِب «الحدث»، ومنها ومنها...


يتناقلُ أهل قرى إدلب قصة (أحمد) المنتسب إلى واحدٍ من فصائل المعارضة المقاتلة، الذي مات بسكتةٍ مفاجئة بعد أن حضنَ خصمه الممدَّد بين يديه في إحدى عملياتِ السيطرة على حاجزٍ «للخصم». لحظة، ومالَ الجسد الذي أمامه ليكتشف أن الوجه المُدمَى هو ابن عمته (فؤاد). انحنى عليه بنعومةٍ ليخبّئ السرَّ عن الرفاق، الذين غادروا بسرعة منادين عليه أن يسرع قبل أن تأتي تعزيزاتُ جيش الخصم، جَلَس متكورًا على جثّة (فؤاد) بعد أن تعطلت حواسه.


يتوسلُ مثل هذا القدر أسئلةً تتجاوز موضوع الغرائبية، فبأيّ هدوءٍ قاسٍ قابلَ (أحمد) ذلك الجسد المُمدَّدَ أمامه، وبأيّ عينين تغيرت فيهما دلالات البصر؟ كيف يصير المشهد الذي يرصد المسافة بين موتين مُفزِعًا إلى هذا الحد؟ كيف يُترجِمُ هذا الدمَ النازف؟ كيف يعرفُ من هو القاتل ومن هو المقتول؟ كيف يعرفُ من فسخ العهد، هوَ، أم الجسد المُمدَّدُ أمامه؟


تمَّ تَناقُلُ تلك القصص وشبيهاتها في سوريا، وشَهِدَ أبطالها انتصار الكراهية أحيانًا، وأحيانًا هزيمتها. وإذا اتجهنا إلى قصص رحلات اللجوء ومغامراتها، هناك تختلط المصائرُ حدَّ الفزع، عندما تصبح حياة السورين بين قَدَرَيّ الغرق أو الوصول إلى الضفافِ الأخرى التي ستكون أوطانًا بديلة، بعدما خَذَلتهم أوطانهم.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +