ليتهم لا يعلمون

ليتهم لا يعلمون

منذ خرجت المظاهرة الأولى، ومع سقوط أول شهيد، عرف السوريون الذين انحازوا إلى الثورة أن حياتهم تغيرت إلى الأبد، فيما ظل الموالون للنظام، يتمسكون بهشاشةٍ بحياتهم التي رفضوا فكرة أن تتغير.


في 18 آذار، تلقينا اتصالًا من صديقٍ من درعا، كان الرجل يصرخ: إنهم يطلقون علينا الرصاص الحي، افعلوا أي شيء، انزلوا إلى الشوارع. وفي رنة صوته تلك، تعرَّفت إلى ذلك الذعر الذي سأسمعه لمراتٍ لاحقة في اتصالاتٍ مع أصدقاء على خط النار.


منذ تلك اللحظة، غمرتنا تلك الحالة، وعرفنا أن ما بدأ لا يمكن إنهاؤه. ومنذ تلك اللحظة، انشقَّ الشعب السوري، بل وتمزَّق إلى صَفّين، مؤيدٍ ومعارض.


ظلَّ المؤيد في تلك المرحلة مصرًا على أن ما يجري ليس مظاهراتٍ كبرى، وأن المتظاهرين يقبضون النقود، وأنهم إسلاميون لأنهم يصيحون: الله أكبر، وأنهم يرفعون علم إسرائيل.


وشاءت الصدف أن كلَّ موالٍ له أبناء خالات وعمومة، وأقارب موثوقون وأصدقاءٌ في كلِّ المناطق الثائرة، وجميعهم رووا قصصًا عن سلاحٍ شاهدوه بأم عيون أقاربهم في المظاهرات، وأن كلَّ المتظاهرين زعران، وطبعًا أضاف الفنانون والمثقفون الموالون على ذلك أن المتظاهرين لا يفهمون ما يطالبون به، وانطلق شعارهم الأثير: أنت بتعرف شو يعني حرية؟


في مرحلةٍ لاحقة، توسَّعت الاعتقالات، وطالت الدوائرَ القريبة والبعيدة من الأصدقاء، وكنتُ أتسلَّحُ في تلك المرحلة بدفاعي الأزلي، أنني لم أكن شاهدة عيانٍ في أيّ من المناطق التي يتحدث الموالي عنها، ولكنني متأكدة أن أصدقائي سلميون أنقياء، وكنت أسأل: لمَ يُساقُ أصدقائي هؤلاء إلى المعتقلات ويُعذَّبون؟ بينما كان الموالي مباشرةً يرمي في وجهك سؤالًا كإجابة: مين اللي قتل نضال جنود؟


في الحقيقة، كنت أُدهشُ أنهم لا ينكرون ما يجري في المعتقلات، وأنهم أحيانًا إن كانوا يحبونك قد ينصحونك: «ضبّ لسانك حتى ما تنشحط».


نزل الجيش إلى الشوارع، ولم ينكر الموالون ذلك، وإنما كانوا يرون أن لا حلَّ آخر، وعندما كُنَّا نتحدث عن النقمة التي ستنشأ، وعن أن من الممنوع أن يوجه الجيش سلاحه إلى أبناء البلد، وأن في ذلك تضحيةٌ بحياة أخوتنا الذين يُسحبون قسرًا إلى الخدمة العسكرية، كانوا يسخرون منا، لأن الموضوع سيحلُّ خلال أيام، وسيعود الجيش إلى ثكناته.


ثمّ بدأت الانشقاقات في صفوف الجيش، وبدأ الحديث عن خونةٍ قبضوا ثمن خيانتهم وانتمائهم إلى مؤامرات بندر والحريري وإسرائيل وأمريكا. وكانت المرة الأولى التي لا يجدون فيها تعارضًا بين الفكر الإسلامي المتطرف وأمريكا والصهيونية، فكلّهم متفقون على سوريا.


تسلَّحت الثورة بعد أشهر طويلة من المظاهرات اليومية، والتي كانت تُواجه كلها بإطلاق الرصاص الحي. وبدأت مرحلة القصف العنيف على المناطق الثائرة. وبدأ يتوسع الحديث الطائفي الذي كان خجولًا، فصار حديث الموالين كله عن إبادة الطوائف الأخرى، وعن «البيئة الحاضنة» للمسلحين.


في هذه المرحلة، عجز الموالون عن اتِّباع سياستهم المعتادة في الإنكار، لأننا كنا نرى الطائرات بأم أعيننا وهي تقصف الناس، وكانت الراجمات تهز بيوتنا وهي تطلق صواريخها، ولكنهم كانوا يصرّون على أن هذا القصف موجه، ولن يقتل إلا من كانوا السبب في خراب البلد، هم ومن يحتويهم.


توسَّع الشرخ الأخلاقي بيننا، كانت الهوة تتسع، وكثيرٌ من الأصدقاء يتساقطون الواحد تلو الآخر. ومجزرة تلو مجزرة، كانوا يكتفون بالتكذيب، تكذيب الفيديوهات، تكذيب الشهود، وتكذيب الضحايا.


ظهرت داعش أخيرًا، ووفرت لهم أدلةً حقيقيةً على ما كانوا يتشدَّقون به منذ الحظة الأولى، وعندما تخبرهم أن داعش ليست جسمًا من الثورة، وأنها تكفِّر الثوار وتقتلهم، يقولون إنك تقول ذلك لأنك لا ترغب بحمل مسؤولية خراب البلد.


خرجتُ من سوريا، وفي قلبي حسرة على من قضيت معهم أيامًا وأعمالًا وحياة، يعتصرني ألمٌ على صدمةٍ أخلاقية في كثيرٍ من المعارف. كنت منذ البداية أفترض أن كل من أعرفهم سيكونون معارضين، لا لشيء، إلا لأنني اعتقدتُ أنهم جميعاً إنسانيون، أخلاقيون، ولكن البعض خيبني بشكلٍ يفوق التصديق.


اليوم، أفكر، هل سيجمعنا فعلًا وطنٌ واحد نبنيه معًا؟ هل سنستطيع أن ننسى ونسامح من كتب وصرَّح علنًا أنه يريد دعسنا، ووضع «صباطه في حلوقنا»؟ لا أعلم، لكن كل ما كنت أتمناه، هو أن لا أعلم أنهم يعرفون حقيقة ما جرى، وأنهم قبلوا وصمتوا وكذبوا الكذبة وصدقوها.


ليتهم كانوا لا يعلمون، ليتني لم أعرف، ليت ضمائرهم لم تسمح لهم بما اقترفوا، وليتهم كانوا حقاً أخوتنا في الوطن!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +