أزمة تربية

أزمة تربية

يمتلئ التاريخ الحديث بمسافاتٍ زمنية قصيرة جعلت الناس تتسوَّل ضوء النهار، أو بتعبيرنا الدارج في ضيعتي الصفراء «تلحس الأرض»، أو «ترضع أعضاءها» بتعبيرٍ أقل أدباً. وبما أن عمري الزمني القصير، وعمري السوري الأقصر، لا يمتد إلى فترة الثمانينات الذهبية، فلا أعرف على وجه المعايشة أزمةً حقيقية كتلك الأزمات المرعبة. لذلك أقرأ في كُتُب التاريخ وكُتُب الاقتصاد الصفراء أيضاً، تسمياتٍ تافهة لأزماتٍ انعجن فيها الآلاف، والْتَوَتْ رقابُهم تحت خط الفقر، ريثما يجد المفكرون والاقتصاديون الأفذاذ حلاً للأزمة التي اختلقوها.


مرَّ على حمص العدية كثيرٌ من الأزمات عبر التاريخ، وحَدَّثني العديد من كبار السن عن فَرّوج الجمعية، والمحارم والسمنة... وخلافه. ولكن الله العلي القدير خصّني بمعاصرة إحدى الأزمات الكبرى التي منَّ علي بها بلدي الحبيب عن قرب.


قال «عبد العزيز» البقّال الفلسطيني الذي كان يمنُّ علينا بإعطائنا ربطة الخبز بالدَين، كلما ضاقت بنا الحال على الخمسة عشرة ليرة سورية: «ما عاد في مراكز توزيع خبز، هيك بدو الغزال» ( محافظ حمص). وكطالبٍ سوريٍ تافهٍ مُدَلَّل، لم أكن أهتم بالطريقة التي يحصّل بها أهلي الخبز، فقد كنت مُتفرِّغاً للدراسة والبحث وفَهم باختين وشكلوفسكي وياكوبسن، فما هي هذه المادة التي قد أهتم بتحصيلها مقابل لعلعات النقد الأدبي الراقي، التي كانت تمطّ خيالي وتفكيري ذراعاً كلّ يومٍ على الأقل.


وحدثت الواقعة. كانت أمي تهمس في أذن جارتنا على الباب، بينما كنت في عليائي أُترجم مقطعاً عزيزاً على قلبي لجاك دريدا. أخبَرَتها أمي كيف منعوا النساء من استلام الخبز، لأن إحدى السيدات كَفَرت بصوتٍ عالٍ على صاحب المخبز، وعلى رؤوس الأشهاد. كان عليّ للأسف أن أترك مهامي الجليلة لأستنطق أمي عن رحلة الشتاء والصيف التي كانت تؤمِّن من خلالها خبز يومنا، وتطعمنا من جوع وتؤمننا من خوف.


ودون الدخول في تفاصيل الاستجواب، قررتُ كرجل البيت الساهر الوحيد، (لم أكن أنام في حمص في الليل) أنّ عليّ تركُ مهامي الجليلة، وحملُ مسؤولية الخبز عن أمي، فقد تجنّ المسكينة يوماً ما، وتكفر بصوتٍ عالٍ على رؤوس الأشهاد، مما قد يضطرني ووالدي وأخوتي وأعمامي أن نعاني بعض المشاكل التي نحن بغنى عنها مع الدولة العليّة.


ذهبتُ في الساعة الرابعة والنصف صباحاً إلى المخبز الذي لا يبعد كثيراً عن بيتنا في عكرمة الجديدة، كان لهذا المخبز ذكرياتٌ رائعة أهمها رائحة الخبز صباحاً، يا لتلك الرائحة المختلطة مع صوت مذيع البي بي سي الصباحي على طريق المدرسة الابتدائية.


وكانت الصدمة، رجالُ ونساءُ حارتنا والحارتين المقابلتين لنا، كلُّهم في ملابس النوم مصطفّين أمام المخبز متثائبين ببسكليتاتهم وقبعاتهم الصوفية، كان القطر العربي السوري بأكمله، بكل شرائحه وموزاييكه الطبقي والطائفي والديني والسياسي والثقافي ينتظر أمام شباك المخبز، كان مدير مَدرَستنا ومُدَرِّساتُنا ومُدرِّسونا وعناصرُ الأمن والضباط والموظفون والتجار وصغار الكسبة والكادحون والأغنياء والفقراء، والفلاحون والعمال، وشكري القوتلي ويوسف العظمة وهاشم بك الأتاسي وإبراهيم هنانو، وسلطان باشا وصالح العلي وياسر عرفات، كلّ سوريا، كلّ السوريين ومن في حكمهم، كانوا بثياب النوم مع القبعات الصوفية ينتظرون طاقة توزيع الخبز لكي تفتح.


زفَّ إليّ أحد الجيران أن الطاقة تفتح في الساعة السادسة والنصف، «إذن لماذا يتجمع الناس هنا منذ الآن؟» قلتُ ببلاهة، قال: «لحجز دورٍ في الطابور».


كانت عيناي الطفلتان تنزَّان ماغما بركانية من القهر، كنت أريد أن أكفرَ بصوتٍ عالٍ كما تلك المرأة الشجاعة، كنت أريد أن أركض كما السيدة في مسرحية ونوس، لأجسَّ بناطيل الناس الواقفة في الطابور، لأبحث عن خصاهم.


فُتِحَت طاقة الفرج، انتظم الناس في الطابور، تقدَّم أحدهم ليتخطى الطابور، اشتبك مع أحدهم، تدخّلت النساء،


خرج لسان ممطوط من وراء الطاقة قائلاً: «كس أمكن كلكن، ما في خبز اليوم لتتربّوا». ثم بكل ما أعطاه الله من قوة أغلق الطاقة في وجهنا جميعاً.


قال أحد الواقفين في الطابور، والذي كان يرتدي فوق بيجامة النوم فِلتاً عسكرياً، «المهم يضل عنا احتياطي استراتيجي من القمح يكفينا ست شهور إذا قامت الحرب مع العدو». وافقَ الجميع وأطرقوا برؤوسهم، وجرّوا بسكليتاتهم، وفي طريق العودة إلى البيت خاليي الوفاض، لم ينبس أحدنا ببنت شفة. ولم تفطر الحارة في ذلك الصباح المُشرق، وتربّينا حقاً.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +