عن اللجوء واللاجئ

عن اللجوء واللاجئ

كَثُرَت في الآونة الأخيرة رنّة: «لاجئ»، ولم يعد وقعها على الأسماع بذلك الوهج الذي كان يحيط بها من قبل، بل صارت الكلمة بحدِّ ذاتها تستدرج سيلاً من العواطف الجياشة. عواطفٌ تكاد تكون القاعدة الذهبية لمظلوميةٍ آنيّة، وربما مظلوميةٍ تتأسس ل«فيما بعد». وعلى هذه المظلومية الحقّة بما تنطوي عليه من قصصٍ حقيقية وأخرى متخيلة، مضافاً إليها كثيرٌ مما تفرضه الحالة وتسمح به. وإذا عرفنا مقدار وتوسع الهامش من حيث الظلم والغبن والخوف والعداوات والثنائيات وغياب الحلول اليومية أو الما بعد يومية، المرهونة بواقع الحال المعاش، والتي منها تتم رحلة النزوح الكبير صوب ما يَراه النازح أماناً وطمأنينة وخطوةً نحو المستقبل للولدِ وللخَلَف، باعتبار أن الوقت فاتَ بالنسبة لمن أخذ من العمر عتياً. وعلى اعتبار أن المستقبل في البلد صار غامضاً، وأكثر من غامض. فالتفكير بالهروب _على الأقل تماشياً مع من يسمي الخروج هروباً_ صارَ حلاً أولياً مُفكّراً به، بل حقاً، وهو أبسط الحقوق التي يمتلكها من لم يمتلك حقوقاً، ومنها حقُّ الحياة.


الحياة ضاقت كثيراً، وإلى جانب كلِّ الآلة العسكرية والتشظّيات المُضيّقة على الإنسان السوري، حيث ماعاد يعرف عدوّه الحقيقي، أو تشاكلت عليه الأمور والتبست بين العدو العدو والصديق الصديق، أو الصديق العدو، أصبحَ البحث عن مكانٍ آمن، أو مكانٍ يعتقده آمناً، جزءاً من تفكيره قبل التفكيرِ ببلدٍ مخرّب تماماً عمرانياً وأخلاقياً ونفسياً، ويستلزم هذا الهدم بناءً آخر سيستنزف ما استنزفته الحرب، وربما أكثر.


أصبحت الساحةُ مُعتركاً لتصفيةِ حساباتٍ وإيقاظِ «فتنٍ» نائمة، ومظلومياتٍ مُنوَّمة، وعللٍ أبسطها حنين السوري إلى أيامٍ سبقت هذا التحول الكبير، وهي أيامٌ مرتبطة بشكلٍ أو بآخر بنظامٍ مستبد، رَسَّخَ في الأذهان كَذِباً مفهوم «الدولة الوطنية» أو الدولة الأمنية. وإن لم يكن هذا «الحنين» قُبولاً بالحلِّ الملوّح به من قِبَل دولٍ رفعت مقولة «النظام الفاقد للشرعية» عالياً، فإنه حنينُ اليائسِ لا أكثر، أو حنينُ الرضى بأهون الشرور. ذلكَ مع أن هذا الشرَّ «فقد شرعيته»، ومن المُلزِم التعامل معه كزمنٍ بائدٍ لا رجوع إليه، والرجوعُ إليه سيعني التنكّر لدماء الضحايا وأحلامهم الموؤدة معهم، لكنها بالتأكيد زرعت نموذجها_أقصدُ الأحلام_ في وجدان من بقي على قيد الحياة، وإن بعوزٍ وحاجةٍ إلى أدنى مستلزمات الحياة.


اللجوء فكرةٌ قبل أن يكون تصرفاً وتوقاً للأفضل، واللجوء عبورٌ إلى ضفة أخرى توفِّرُ الأقلّ، وتعوِّضُ عن الكثير المستلب والمنهوب. واللاجئُ الذي يروم بلداً هارباً من النار التي ألمّت به وبأهله، يوفِّرُ بذلك أشخاصاً لهم حيواتهم وأحلامهم وكذلك أوهامهم، وآمالهم بالعودة. ليس الجميع على درجةٍ واحدةٍ من الجَلَد، أو القدرة على البقاء. نعلم أن البقاء في أرض سورية اليوم، يعني السلاح وترقب الموت بين اللحظة والأخرى، ويعني أن تكون مقتولاً بيد جارك أو قاتلاً له، فالتشظي الحاصل في الثنائيات قلَّلَ من المبدئيات والمشتركات ومواثيق الشرف، وبالتالي فإن الحديث عن «أخلاق الفرسان» لايعدو كونه كذبةً كبرى، تعلَّلَ بها من وجد نفسه صفراً في الأخلاق.


تَسارعت صيحاتُ الاهتمام باللاجئ، كما لو أن صفة اللجوء الحديث صارت سوريةً تماماً، وذِكرُ «لاجئٍ» يُحِيلُ بالضرورة إلى أناسٍ سوريين غرقى، وآخرهم صورة الطفل آيلان على شاطئٍ تركي، وحذاؤه الصغير الذي ظَهَرَ كما لو أنه صفعةٌ موفقةٌ على وجه العالمِ الكبير بتنصُّله من التزاماته الأخلاقية والأدبية تجاه مأساة العصر الحديث.


لا يموت السوري المغادرُ أرضاً أحبَّها وتمسَّكَ بها إلى هذا الحدّ الذي لا يطاق، غرقاً في الأبحر المتجهة به إلى مواطن الأحلام الحديثة، في حين تأخذه إلى حتفهِ وحتف أُسَرٍ كاملة كما لو أنها على اتفاقٍ جماعي مع الموت، بل يموت السوري أيضاً _بعد أن نجا من البراميل وسكين ذوي القربي_ حرقاً وحنيناً، أو سقوطاً من الأبنية العالية أو الجسور.


أيها العالم يكفي، الدنيا دُوَّل، والمصائبُ لا تُلازِم أحداً بعينه، المصائب أيضاً تدور بعدلٍ، وغير عدل!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +