قبرٌ واحدٌ هو العالم

قبرٌ واحدٌ هو العالم

لم يتأخر سؤالي بعد مواساة صديقي بوفاة والده اللاجئ في الأردن، أين دفنتموه؟


في مقبرةٍ للاجئين السوريين قرب الرّمثا، أجاب صديقي. تبرَّع بأرضها أحد المواطنين وقال: هذه مقبرة للسوريين. امتلأت، فتبرَّع آخرٌ وقال: هذه مقبرةٌ أخرى.


بدأت الحكاية في مقبرة الشهداء بمخيم اليرموك في دمشق قبل سنوات، رخامُ شاهداتِ القبور يحكي عن رجالٍ ونساء ولدوا في فلسطين قبل عام ثمانيةٍ وأربعين وماتوا غرباءَ في دمشق، غربةُ القبر غربةٌ إضافية.


يحتفي السوريون كثيراً بالموت وطقوسه، هذه عادةٌ قديمة لا أعرف أصلاً لها، فمن أوضحِ ما تشاهده في مدننا هي المقابر بأسمائها وازدحامها ومظاهر بذخها أو فقرها، وزوارِها الأحياءِ منهم والأموات.


في بيروت، لم أَزُر مقبرةً حتى الآن خلال سنتين من الإقامة فيها، أين يُدفَن السوريون إذن؟ أين يُدفَن اللبنانيون حقيقةً؟ بيروت تُخفِي مقابرها كأن الموت ليس من يومياتها، نادراً ما ترى مقبرةً أو بابها حتى وأنت تجوب شوارع بيروت ومناطقها، سواءَ كنتَ تمشي أو تجوبها بسيارةٍ وعيناك تستكشفان المكان بعين الصقر.


ربما تريد  بيروت أن تحتفي بالحياة فقط.


حين توفي محمد العسّاف قبل 150 عاماً تقريباً، لم يشأ أهله أن يدفنوه في دير الزور على جري العادة، خوفاً من أن تعلم السلطات بموته وتستولي الحكومة العثمانية على ماله الوفير، كونه لم ينجب أطفالا ذكوراً بحسب قوانينهم، فكان أول ميتٍ يُدفَن في مقبرة القرية، موحسن. اختاروا مكاناً مُتطرفاً من القرية بالقرب من أثرٍ قديم يُرَجَّح أنه روماني، يُدعَى أبو نهود.


كانت الجدةُ تتمنى قبل أن تنزح مع ابنتها وحفيدتها إلى تركيا أن تُدفَن في مسقط رأسها قريباً من القامشلي، حين توفيت في تركيا وبدأت الحفيدة بالجري والسعي المحموم لإتمام إجراءات الوفاة والدفن، ظَهَرَت فجأةً بين أشيائها بطاقتها التركية القديمة، والتي كانت كافيةً ليتولى الأتراكُ تنفيذَ وصيَّتها، وعمليةَ الدفن من أَلِفِها إلى يائِها.


ما زال السؤال قائماً، أين يُدفَن السوريون في لبنان يا حج أبو البراء؟


في كلِّ مكان، كلٌّ في منطقته، يَرُدّ.


أَستفصِلُ منه أكثر: لاجئو الخيام في البقاع أين يدفنون؟


لقد تَبَرع مواطنٌ لبناني هناك بقطعة أرض، وصارت مقبرةً لهم.


عيونُ حسنة الدامعة، مريضتي الرقاوية التي تراجعني في العيادة، دَفَعتني لسؤالها أيضاً، أين دفنتم ميتكم الشاب الذي توفي بصعقةٍ كهربائية أثناء عمله؟ قالت: اشترينا له قبراً في مقبرة حي السلّم الفقير العشوائي بمبلغٍ قريبٍ من الألفي دولار.


تقاسمَ أهل موحسن أرضَ المقبرة حسب عشائرهم وأفخاذهم طيلة السنين الماضية، فالجزء الغربي من المقبرة للفخذِ الفُلاني، والذي في الوسط يحتوي قبور العائلة الفُلانية، وقبرُ فُلانٍ من الناس يقع في الطرف الجنوبي منها، وخريطة المقبرة محفوظةٌ في الصدور والشواهد.


حين قامت الثورة وبدأت قوافل الشهداء تسير قافلةً وراء أخرى، أصبحَ للشهداء مقبرتهم الخاصة ضمن المقبرة بغض النظر عن عشيرتهم، حتى أن كثيراً من شهداء المناطق الأخرى الذين استشهدوا أثناء قتالهم في موحسن دُفِنوا فيها، إلا الذي  طلبه أهلهُ ليُدفَن في قريته أو منطقته.


حين توفي والد صديقي الآخر، لم أجد ما أعزيه به إلا القول، حمداً لله أن والدك توفي في بيته و قريته كما أحبَّ وأراد، وهو الذي نزحَ من حوران إلى مصر لتسعة أشهر لم يخرج خلالها من البيت أبداً، ولم يتناول طعاما إلا من المؤونة التي أخرجوها معهم إلى هناك.


بكاه صديقي بحرقةِ من يقف على قبرٍ يمتد من لبنان إلى حوران، دون أن يتمكن من  دخول سوريا والوقوف على قبره بسبب وضعه الأمني.


مع دخول تنظيم الدولة الإسلامية إلى دير الزور وموحسن، عَبِثوا بالقبور وأزالوا شواهدها حتى زالت معالمها، وأضحت المقبرةُ كأنها قبرٌ واحدٌ كبير.


أُقيمَ لوالدِ أحدِ الأصدقاء حين وفاته في مصر سبعُ مجالسِ عزاء في بلدانٍ مختلفة على عدد أولاده وبناته المنتشرين في المنافي، القبرُ تَشظّى هو أيضاً وانتشرَ في بلدانِ الشتات.


خَرجَ الأولادُ والآباءُ والأمهاتُ من سوريا في هذا الشتات الكبير، والوصايا تَلهَجُ بما قاله مالك بن الريب يوماً.


يقولون لا تَبْعَدْ وهم يَدْفِنونني    وأينَ مكانُ البُعدِ إلا مَكانيا

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +