تكشيرة الياسمين!

تكشيرة الياسمين!

لا شيء كمدينتي التي غادرتها...


ذلك الجو المشبع بالغبار ورائحة «المازوت» المحروق. الشوارع المستعدة للتحول لبرك طبيعية خلال دقائق من هطول المطر. الأبنية المتلاصقة التي لا تسمح للشمس بالدخول إلى غرفٍ تُكمل الستائر فيها عملية الإعتام الكاملة. بانتظار مشهدٍ جديد.


أشتاق صوت الباعة المزعج، طرقاتهم على المعادن وصراخهم الكفيل بإيقاظ الموتى. الازدحام المهين في عقدها المرورية الرئيسية. التدافع، والوقع، والشتائم، والأصابع الممدودة على سبيل إثبات الهوية في عمق الحلم الشبابي المكبوت. وهل ثمة ما هو أجمل من الحلم؟


في المدن التي عبرتها وصولاً للقرية النائية التي أقيم فيها الآن، افتقدتُ نظرات الشرطة المليئة بالحقد، وأحسستُ بارتباكٍ جذريّ حين سألني مفتش في قطار ما عن أوراقي: هل أضع له 25 يورو فيها قبل أن أعطيها له؟


ما الذي يفعله الأجانبُ بكل هذه الحدائق بين البيوت؟ ولمن كل هذه التماثيل والمنحوتات؟! يالهم من مساكين... كم قائد خالد، وفارسٍ ذهبيٍّ، وأبلهٍ يرسم المستقبل في بلادهم!


الكثير من ألعاب الأطفال، والكبار بين الأشجار. مضحكون باهتمامهم المرضيّ بالصحة!. أتخيل نفسي وأنا أتمرن في حديقة عامة بعمقيّ التاريخي، بتراثي الفينقي المندلق أمامي والذي يسميه المغرضون «كرشاً»، أتخيل هذا فأشعر بالبلاهة. صرتُ أكبرَ من حركاتٍ طفولية كهذه! ما زاد من عمق قناعتي بميل المدن الأوروبية لزرع انعدام النضج في سكانها: تلك العجوز الثمانينيّة التي طلبت منّي أن أعلّمها العربية مقابل تعليمي الألمانية... ياه... ما هذه «الولدنة» يا الله! التفتي لآخرتك يا امرأة! أنت على حافة قبرك... أنت ومدينتك القاتلة!


قبل أن أغادر مدينتي، أخبرني عشرات الرفاق عن قسوة الحياة في المدن الأوروبية، وأن هذه المدن تسلبك روحك وحميميتك؛ لم أصدقهم، مثل أيّ *** لا يُصدّق حتى يرى!


أجل:


في الصباح، في محطات المترو، أفتقد الوجوه السمحة التي تشعّ رضىً وحبوراً، تلك  التي كنت أراها كل صباح في «السرفيس». وكيف يمكن مقارنة وجه انسانٍ أوروبيّ مرهقٍ بتأمين لقمة عيشه... بوجه سوريّ استطاع تحقيق حلمه الصباحي ووجد مقعداً في السرفيس المتجه إلى عمله!.


المدن الأوربية طاحون حقيقي تقتل في الإنسان كلّ ما فيه من إنسانية، حتى إنّ الأوربيين مصابون بمتلازمة «بلاهة رد التحية» لأي عابر مع ابتسامة خالية من «تكشيرة» الياسمين التي لم نكن ندرك قيمتها حين نراها في وجوه كتل اللحم المتعضّي في مدننا الحنونة.


المدن الأوروبية مهووسة بفرز النفايات، وتصنيفها، وتخصيص حاويات مستقلة لكل نوع (أي عقدٍ تحمل في حياتها اليومية ما الحاجة للحاوية أصلاً! ألم تكن زاوية الحارة مكاناً كافياً!) أشتاق حارتي ذات الزاوية.


الموسيقون المجانين في الشوارع، كارثة كاملة لوحدهم... أين الجهات المختصة في هذه البلاد؟ كيف لا يحترمون حقّ المارّة بالهدوء؟ ألم يتعلموا شيئاً من مدننا الغافية بسكينة على ايقاع المسحّر وصوته الشجيّ المتوحّد مع الفضاء الروحي لمدنٍ رفضت ترف الغرب الخادع، وعاشت في سلام الصوفيّة الواثق!


أفتقد كل هذا في المدن التي أتنقل فيها في هذه القارّة الكئيبة، أفتقد ذاتي وتكويني وتاريخي ومستقبلي، أفتقد الكسل، والتأخير، أفتقد النظرات العدوانية في الأحياء الغريبة، أفتقد الغبار والأبنية القبيحة الفوضوية.


في المدن الغريبة هذه: أرى حلماً حمله ثوّار بلادي قبل خمسة أعوام...

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +