تمائم القاهرة

تمائم القاهرة

هل يمكن أن يتحدث المرء عن مدينة بمعزل عن ناسها؟


المدن في حدّ ذاتها لا تملك شيئاً، مجرد شوارع وميادين وأزقة وبنايات، مساحات مأهولة وأخرى مهجورة، سحر المدن يكمن في ساكنيها، هؤلاء الذين يصنعون ضوضائها وموسيقاها وأفراحها، يلونونها بأزيائهم وأصواتهم ومشاجراتهم وضحكاتهم، هم وحدهم القادرون على أن يجعلوها تتنفس هواء الحياة، أو يميتوها، والقاهرة مدينة تستمد حياتها المديدة من هؤلاء الذين عبروا شوارعها لسنين وسنين، الذين تركوا بصماتهم عالقة على أحجارها وتماثيلها وحوانيتها، زرت الكثير من المدن الجميلة في العالم، مدن مبهرة وصاخبة بأضوائها وزحامها وضوضاء شوارعها، لكنها لم تترك بداخلي الأثر الذي خلفته القاهرة، المدينة التي لا تشبه المدن، هي نسيج وحده، كلمة قيلت مرة وظلت تتردد في الأسماع والأذهان والعقول على مر العصور، ربما لأنها تترك في روح كل من يزورها شيئاً لا يفصح عن نفسه، شيئاً غامضاً ومألوفاً ومحبباً، يبقى ساكناً هناك، في بقعة ما غائرة في أعمق نقطة من حواسنا، كحجر سقط في بئر، نعلم بوجوده، لكننا لا نستطيع التقاطه لنعرف شكله أو هيئته.



الآن، حين أستعيد القاهرة التي تربيت فيها وأنا أطوف شوارع المدن الرمادية الباردة، تلسعني أشعة شمس قديمة، ويغمرني إحساس بالراحة، وأجد نفسي أتنفس بعمق مالئاً رئتيّ بالهواء البارد، عشت سنيناً طويلة متسكعاً في شوارع القاهرة، حتى تشكّلت لي مع الأيام والسنين أماكن أتردد عليها، وناس أجالسهم لنحكي ونثرثر عن الكتابة والشعر والكتب الجديدة، ظل الحنين قوياً في السنوات الأولى التي أعقبت خروجي منها، لكنه بدأ يفتر شيئاً فشيئاً مع كل زيارة لي إليها، كنت أنظر بعين الزائر الطارئ فألمح النتوءات والتغيرات الطفيفة في سلوك الناس، ميلهم الذي يزداد إلى العنف، الضحكة المرحبة التي سرعان ما تنقلب إلى سخرية منك والاستهزاء بك، الثقة الزائدة في النفس التي لا تسمح بالاختلاف في الرأي، وحين كنت أشعر بالاختناق، كنت أسافر إلى الريف، لأجد المساحات الخضراء بدأت تضيق وتحيط بها بيوت الأسمنت مثل جيوش تحاصر العزل، فأعود من جديد إلى القاهرة، منتظراً موعد رحيلي عنها قبل أن يخنقني الزحام.



المدن كالنساء، منها ما يستقبلك بذراعين مفتوحتين عن آخرهما، ومنها ما يستقبلك وهي تشيح بوجهها عنك، والقاهرة عجوز، أثقلت كاهليها حكمة الزمن، تستقبلك بوجه مغضن بالتجاعيد لكن بعينين عفيّتين، تنظران بعمق في عينيك فتعرف أنك أمام تجسد جليّ لروح عصيّة على الكسر، أرى القاهرة اليوم فأحزن، أتمشى في شوارعها التي طالما تمشّيت فيها من قبل، فأجد قدميّ لا تقويان على حملي، هواؤها صار ثقيلاً على رئتيّ، وعطن غامض يفضح نفسه هنا وهناك، لكنني أستمر في السير، فارداً ظهري عن آخره، رافعاً رأسي كي لا تباغتني وتسقط.



المدن تمائم، كل مدينة كتاب أسرار، والقاهرة متحف كبير، تستطيع أن تتنفسها بكامل رئتيك في حانوت عطارة قديم في السيدة زينب، تستطيع أن ترى عظمتها كاملة وأنت تتجول في أزقة حي الحسين والعتبة وشوارع شبرا وباب اللوق، تستطيع أن تصل إلى خلودها بِطَلّةٍ من عينيك إلى الأهرامات، كل هذا معروف، لكن الكنز الحقيقي الذي تخبئه هذه المدينة في طياتها كحجاب حارس، هو ناسها، كهولها الذين يسيرون في طرقاتها منحنين تحت وطأة السنين، نساؤها الكبار والصغار الذين عجنتهم الحياة بخبراتها، شبابها الذي كان بشوشاً فأصبح اليوم ساخراً، متهكماً، ضاحكاً من نفسه قبل أن يسلخك بنكاته المرة.



القاهرة التي كتبها سيد حجاب وغناها على الحجار قائلاً:


هنا القاهرة الساخرة القادرة


الصابرة المنذرة الثائرة الظافرة


صدى الهمس في الزحمة والشوشرة


أسى الوحدة في اللّمة والنتورة


هنا الحب والكدب والمنظرة


نشا الغش في الوش والافترا


هنا القرش والرش والقش والسمسرة


هنا الحب والحق والرحمة والمغفرة


وأنا ف قلب دوامتك الدايرة بينا


بصرّخ: بحبّك يا أجمل مدينة


 

المدن كالناس، منها الطيب ومنها الشرير، والقاهرة مدينة تقف بين البرزخين، ستقابلك بكرم مشوب بالحذر إن دخلتها بروحك المتسامحة، وستأكلك مثل فأر.. لو دخلتها حاملاً شراً.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +