اسكندرية وقهوة وخلافو...

اسكندرية وقهوة وخلافو...

المدن أقفاص خرسانية للأرواح المضغوطة بين قضبان شوارعها وحاراتها. ينطلق تعريف المدن للغرباء من ذكرياتهم عنها. لن يصدقك أحد بالطبع، لو تكلمت عن الإسكندرية بالخير! فهناك شبهة دائمة بأنك تحاول تقليد كفافيس أو التطبيل لنفسك فيما لو وضعت اسم هذه المدينة الساحر في نصك. الإسكندرية المدينة المثقلة بتاريخ لا تستطيع الوفاء له، وبحاضر لا ينصفها. من لعنات المدن السياحية دائماً أن يحظى الشارع السياحي الأول بكل الجمال والأناقة، فما بالك بمدينة مقسمة على طول الشاطئ إلى خمسة شوارع تعمل الشوارع الخلفية الأربعة على خدمة الشارع الأول، وتترك لمصيرها خدمياً وسياحياً وحياتياً. بحر وترام وجسور ورحيل بين الأقمار!.


لا نفهم في سوريا معنى المقاهي حقاً لأنها مهما كبرت أو صغرت تندرج لدينا في مفهوم «الكافيه». القهوة المصرية الاسكندرانية هي تلك الطاولة الصغيرة للغاية، التي تحمل أغراض الجالسين الشخصية وكبايات الشاي والسكّر الذي يأتي «برّا» وسندويتشات الفول والطعمية والأوراق التي تحتوي على الباذنجان المقلي والملح. يا للإسكندرية العظيمة التي تتألق على القهوة.


يمكنك في الإسكندرية أن ترتدي البابيون وتذهب إلى مهرجان الأغنية العربية في مسرح سيد درويش، لتدخل إلى العشرينيات مباشرة، يمكنك أن تذهب للسباحة على شاطئ خاص في فندق الفور سيزونز، يمكنك المرور بجانب فكتوريا كولدج التي تأسست في 1902 لتسمع صوت الملك حسين وملك اليونان يرددان قصائد ألكسندر بوب بإنكليزية طليقة، يمكنك زيارة قصر المنتزه فرساي الشرق الأوسط لتستوعب جوهر الملكية وتنتظر عدة لوردات إنكليز وباشاوات أتراك سيظهرون من خلف الشجر يحملون الشاي الانكليزي ويتضاحكون بصوت عال.


ستخاف كسوري ترعرع على الدراما المصرية من اسم حي كرموز، وشارع علي بك الكبير، لا بد أن تطل عليك ريا وسكينة من أحد الشبابيك ولن يشفع لك جمال شادية ولا خفة دم سهير البابلي من الموت والدفن في قبو المنزل.


تاريخ وإمبراطوريات وقادة عسكريين وشقق على الطراز الأوروبي.


كنت أقول معتزاً بعد أن خرجت من سوريا إن ماليزيا المكان الوحيد الذي دفعت فيه رشوة للشرطة بعد سوريا، ولكن الإسكندرية كسرت هذا الرقم القياسي الذي ظننت أنني حققته!


لا أثر لكل ذلك التاريخ في الإسكندرية اليوم، كل ما تراه لا يعدو مقاطعةً باكستانية حدودية، أو مدينة هندية مكتظة بعيدة عن الإعلام. ستبقى الإسكندرية المكان الأول الذي شاهدتُ فيه جثة متروكةً تحت جسر عبد الناصر، وستبقى الإسكندرية أول مكان تعرضتُ فيه لإطلاق النار في حياتي، وستبقى الإسكندرية المكان الوحيد (ما عدا سوريا) الذي رأيت فيه الأمن المقنع يضرب الناس ويعذبهم في كمين ليلي دون أي سبب، ستبقى الإسكندرية الحضن المفتوح الذي حملني بعد بلدي سوريا وأحبني وأعطاني أكثر مما أستحق، لقد ناداني الناس «يا باشا»، وتغير اسمي إلى «عمدة» وتزوجت حبيبتي السورية الفلسطينية في الإسكندرية، ركبت الترام والتقيت بسمير صبري ولطفي بوشناق، وعلي الحجار وهاني شاكر، وكان مصطفى قمر يتسكع على زاوية شارعنا عند محل الموبايلات، تعلمت شيشة السلوم، وشهدت أرقى وأجمل ميناء في البحر المتوسط يستحيل إلى حارة عطشى على ضفة البحر المالح القذر، ودعت مئات السوريين الذين ركبوا قوارب الموت إلى إيطاليا، شاهدت آلاف «الخناقات» التي لا معنى لها، تعرفت على دزينة من الأوروبيين الـ «إن جي أوزيين» اللطيفين. ضَربْتُ وضُرِبْتُ من قبل عدة سائقي تكسي ونصب علي تأمين البيت، أخذني فقير معدم من يدي وأعطاني الثوم والزيت والخبز عندما عرف بأنني سوري، حلقتُ شعري بخمسة جنيه وبمائة وخمسين جنيه.


الإسكندرية اللاذقية المزيفة بالنسبة للسوريين، الشاهد الأبدي على أن الوهج الإمبراطوري يحمل وراءه دائماً شوارع خلفية مزرية، وأن الإنسان المصري أجمل من الأهرامات ومكتبة الإسكندرية وأبو الهول نفسه!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +