مسرح الأدهمية

مسرح الأدهمية

مأهولةً بالسكان منذ أكثر من أربعة آلاف عام، لكن هذا لا يعني شيئاً، فالسوريون لا يعرفون عنها سوى مناف رمضان ومالك شكوحي وضباط الأمن، وأنها أنجبت ذات يوم رجلاً قاتل واستشهد في فلسطين. تبدو لعابر سبيلٍ كما لو أنها مدينة بلا تاريخ، وقلةٌ فقط يعرفون مسرحها الروماني الذي يبلغ حجمه أضعاف مسرح أختها اللبنانية جبيل، كما أن قلةً فقط يعرفون أنها تتوسط سهلاً فسيحاً خصيباً مليئاً بالتلال الأثرية، وبساتين البرتقال أيضاً، كأنها شقيقة يافا الصغيرة.


هي ليست مدينةً جميلةً على كل حال، لأن كتلها الإسمنتية العشوائية تبعث على الحزن كما كل شيء في هذه البلاد، لكن شاطئها الصخري ومقاهيها التي لا تنام في الصيف محضُ تفاصيل إضافية لا يراها عابر السبيل، تفاصيل تحكي بعضاً من قصة مدينة كانت تريد أن تكبر وتصير شيئاً آخر غير ما هي عليه اليوم.


ريفها وأحياؤها الجديدة اليوم مقلعٌ للرجال الذين يذهبون للموت على الجبهات دفاعاً عن نظام الأسد، وأحياؤها القديمة التي أوشك التاريخ على نسيانها، العزي والفيض والدريبة، ليست سوى أسماءَ أخرى لثورة السوريين اليتيمة. هل يذكرُ أحدٌ مظاهرات أهل المدينة الشجاعة التي اختنقت وتراجعت تحت وطأة التهديد العلني بالحرب الأهلية، وتحت وطأة رصاص القناصة؟


سيرة المدينة، أي مدينة، هي سيرة أهلها، لكن العثور على أهلها هو المشكلة، إذ لم يندمج أهلها الأصليون مع الوافدين من أريافها ولو للحظة واحدة طيلة سبعين عاماً أو أكثر. لكن ما قد يثير ذهولَ مراقبٍ خارجيٍ لا يعرف بلادنا ودروبها الوعرة هو الإهمال الذي تعيشه المدينة: كيف يخرج كل هؤلاء الأنصار الأشداء لنظام سياسي من مدينة مهملةٍ على هذا النحو العجائبي؟


لا شيء في مدينة جبلة يسترعي الاهتمام سوى فريق كرة القدم الذي حاز على الدوري السوري بضعة مرات، والعدد الهائل من ضباط الأمن الكبار، وكورنيشها البحري البهي، المهمل إلى حد القطيعة والعزلة. كان يمكن لأي وزارة سياحة أن تأتي بآلاف السياح إلى هناك بدعاية منظمة بسيطة!!


مسرحها الروماني المهمل كما لو أن برميلاً متفجراً أصابه يبعث على البكاء، والآثار المخبوءة فيها وفي التلال الأثرية المحيطة بها كفيلةٌ بأن تكون متحفاً كبيراً في الهواء الطلق. لكن «تل سوكاس» الأثري قربها منطقةٌ عسكرية كاد جنودها يطلقون النار علينا ذات مرة بعد هاجمتنها كلاب حراستهم، حدث ذلك عندما صعدنا بسيارتنا بضعة أمتار باتجاهه.


يسميها خصوم النظام اليوم «جبلة الأدهمية»، و«الأدهمية» هذه تكنياً بضريح المتصوف المسلم «إبراهيم بن أدهم» المدفون فيها. لكنها لا تزال في الواقع «جبلة الأسد»، ولا يزال مسرحها مسكوناً بالغبار، ولا تزال صور أبنائها القتلى في كل أنحاء البلاد تغزو الشوارع والجدران وأعمدة الإنارة، وتنذر بالمزيد من الغبار والكآبة.


بعضٌ من سيرة المدينة رواه لي رجلٌ عجوزٌ ذات يوم: «نزلتُ من القرية إلى جبلة طفلاً مع عائلتي قبل أكثر من خمسين عاماً، كنّا نريد أن نتعلم ونكبر ونذهب إلى المسرح والسينما، كان فيها أربع صالات سينما، كنّا نريد أن نعيش ونصير من أبناء المدينة، لكن أولادي اليوم ليسوا أبناءها، لقد شارك واحدٌ منهم في اقتحام أحيائها القديمة واعتقال الشبان هناك عام 2011. لا أعرف كيف أفلت كل هذا من أيدينا، لكنه الخوف، نحن خائفون من السنّة وهم خائفون منا، لم نستطع أن نعيش بلا خوفٍ ليومٍ واحد».


يجمعون الناس في ساحةٍ عامة ويدوسون رؤوسهم بالأحذية العسكرية، يبدو هذا مشهداً من قرية البيضا في ريف بانياس، لكن العجوز إياه قال إنه سبق أن شاهد مثله بأم العين في واحدٍ من شوارع جبلة. كان ذلك في صبيحة السابع عشر من تشرين الثاني، عندما تظاهر بضعة مئات من الأشخاص فيها ضد انقلاب الأسد على رفاقه في البعث، لقد كانت هذه بداية عهدٍ جديدٍ في المدينة والبلاد كلها، إنه عهد سوريا الأسد.


الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +