أطفال الشوارع

أطفال الشوارع

الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل، فتاةٌ تضمُّ أخاها الرضيع وتستلقي على الرصيف، تتسول بعض النقود لتساعد أمها على إطعام إخوتها الثلاثة بعد أن سرقت الحرب أباها، ودمرت كل ما يملكون.


إلى الأمام قليلاً ثلاثة أطفال أرهقهم التعب، فناموا متلاصقين غير عابئين بنظرات العابرين والنقود القليلة التي تُلقى بجوارهم. على الرصيف المقابل ينام طفلٌ مسنداً رأسه على قدم أخته التي تضع أمامها كيساً من علب الأدوية الفارغة لتستجدي ثمن الدواء لأمها المريضة، وعلى بعد أمتار أربعة أطفال يبيعون ربطات الخبز، وبجانب حاوية القمامة خمسة أطفال ينقّبون بين أكوام القمامة عن شيء نافعٍ وذو فائدة، يصرخُ بهم أحد الجنود وهو بكامل استعداده للقتال: «انقلعوا من هون.. حيوانات!»، فيولون هاربين تاركين غنائمهم. عند تقاطع الطريق مجموعة أطفال ينتظرون توقف السيارات ليهرعوا إلى أصحابها متدافعين متنافسين، فمن يصل أولاً سيجني نصيباً أكبر، وقد يقع بينهم شجار أو عراك بسبب هذه المنافسة.


أشتري قهوةً من بسطة البائع النازح الذي يُعيل ستة أبناء وأجلسُ على إحدى العتبات، أحدّق بالأطفال المبعثرين كجنودٍ على جبهةٍ ساخنة، أقرأ فوضى الحرب على معالمهم الشاحبة. كان ينبغي أن يناموا باكراً ليذهبوا صباحاً إلى المدرسة بكامل مرحهم ونشاطهم، كان ينبغي أن يقرأوا قصصاً وينصتوا إلى حكايا الجدّات.


هنا الشوارع غدت خشبةً لمسرح الواقع، تُؤدى عليها مسرحية عبثية يلتقي فيها الجلاد والضحية، بأدوارٍ وزّعتها الحرب التي لعبت دور المؤلف والمخرج.


أربعةُ عسكريين بكامل عتادهم يشربون العصير, بجوارهم ينام طفلٌ على خرقة بالية، ينظرون إليه بازدراء. يقترب طفلٌ بثيابٍ ممزقة ويطلب من أحدهم: «عمو عطيني حق سندويشة»، يرمقه الجندي بنظرة مرعبة فيبتعد مكسوراً. يمرّ طفلان ومعهما طفلة، أحدهما حافي القدمين، ويطلبون بتوسل: «عمو عطيني عشرة»، أتحدثُ إليهم قليلاً.


كان لهم بيوتٌ دافئة وأحلامٌ ملونة قبل أن تدمر الحرب جنّاتهم وتلقيهم إلى شوارع الجحيم، يأتي بائعو البسكويت الذين حفظهم الرصيف، ثلاثة أطفال يعرضون بضاعتهم بإلحاح، ثم يأتي أيمن الطفل الذي أراه دائماً مع أخته فاطمة، يخبرني أنها تزوجت من قريبٍ بعمر أبيها، أتذكر كثيراً من الفتيات النازحات اللواتي كان أهاليهن يزجّون بهن في زواجٍ مدمّر قبل أن يغادرن ربيع الطفولة.


أيمن يعمل صباحاً في توصيل طلبات في أحد محلات البقالة، وفي الليل يبيع الخبز في الطرقات، هو كغيره من آلاف الأطفال الذين تراهم كل يوم في سوق العمل الذي يشتري طفولتهم ويبيعهم رجولةً مبكّرة.


هم أطفال الحرب الهاربون من الحصار والموت إلى الضياع والانتحار، لا يعرفون ما يجري حولهم، وربما لا يوجد تلفازٌ في بيوت ذويهم ليتابعوا الأخبار ومستجدات السياسة التي لا يفقهونها، ولا يعرفون شيئاً عن الهجرة واللجوء. هم خارج معادلات الأطراف المتصارعة، لا يفهمون معنى النصر والهزيمة أو السيطرة والتحرير أو الحل السياسي، منفيون على هامش الوطن المُتصارع عليه، نسيهم المجتمع الدولي والإنسانية والتهمت الحرب طفولته.


الحرب ليست صراعاً في أرض المعركة فقط، الحرب تتجلى في الشوارع والبيوت والأحلام، وتفوح رائحتها في كل مكان، وهي مرسومة على وجوههم التي سُلِب منها النور والأمل.


 قبل أيامٍ ماتت آية، الطفلةُ التي كانت تعاني من شلل رباعي واختلاج دائم، وكما ضاقت عليها الحياة ضاق عليها القبر، فلم تجد مكاناً يحتضن جثمانها الغض، وكان على أمها البائسة أن تجمع بشقاءٍ ثمن الموت لتشتري لها قبراً في مكانٍ ما، على الرغم من أن أغلب الأمكنة في البلاد أصبحت قبوراً تحتجز الطفولة.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +