قول في صدأ المسرح السوريّ

قول في صدأ المسرح السوريّ

تغيُّر المناخ السوريّ في السنواتِ الأخيرة أتاحَ لكلّ فرد الحق في أن يبحث عن طريقةٍ جديدةٍ للنظر في هذه التقلّبات، الّتي أصبحت بحاجةٍ لإعادةِ قراءةٍ وتفكيرٍ جديدٍ لتكوينِ ردّة فعلٍ تجاهها، نابعة من حاجةِ الفردِ نفسِه، والمسرحُ هو المكان الوحيد لتحقيق مثل هذه الحاجة، من خلال معالجة الواقع عبر تقديمه ضمن إطارٍ فني.


ما يُميز المسرح هو الشكل، وطريقة تطوره بالعلاقة مع المحتوى والواقع. ومعطياتُ الواقع السوريّ الجديد تفرضُ وتُحتّم ضرورة إيجاد منهجٍ يتوافق مع الواقع وحاجة الفرد فيه؛ فالفرد ليس بمعزل عن هذه العمليّة بتاتاً، وعودة معظم المخرجين المسرحيين في الغرب إلى مسرحِ الشرقِ ما كانت إلاّ ردّة فعل على حالةِ الفرد بعد الحرب العالميّة، بغية العودة للصفاءِ الداخليّ كطريقةٍ لتطهير أنفسهم من الضغوطات الّتي اخترقت حياتهم وذواتهم.


ما أقصده أن هناك واقعاً وحاجةً تدفعُ الفرد لسلوك منهجٍ معين، والبحث عن موقع له في الحياة، وأكثر من استطاع فهم هذه المعادلة ومعالجتها هم المسرحيون الغربيون، فمنهج المخرجة الأميركيّة «آن بوغارت» على سبيلِ المثال، يرتكز على إعدادِ فضاءٍ مقدسٍ يُتيح للممثل تحريّر الطّاقة الّتي بداخله وتفريغها، كما أن الخوف وغياب مساحة الأمان دفعها لأن تخوض في تجارب مسرحيّة تتخطى فيها المشاعر السلبيّة وتسمو بها، فالمسرح عندها هو حاجة لتغيير ذاتيّ وغوص في الفضاءِ الفرديِ.


هذا ما لا نجده في المسرح السوريّ الّذي مازال يتكئ على مناهج الغرب حتّى دون جعلها مناسبة لحاجةِ أفراده وضرورات واقعه الراهن، بل هي تقليدٌ أعمى لا أكثر، وبذلك يبقى الممثل عالقاً في فضاءٍ مختلف ضمن مفردات وسياق غريب عنه، وكأنّهُ يُحلّق في هواءٍ لا يتنفسهُ.


لا يُمكن أن نَعتبر ما يُقدَّم على خشبةِ المسرح السوريَ باسم «عرضٍ مسرحيٍ» على أنه كذلك فعلاً، بقدر ما هو محاولات وتجارب لم ترقَ بعد لأن تصل إلى مستوى تسميتها عروضاً مسرحيّةً، فالعديد من المخرجين السوريّين لا يعتمدون على منهجٍ إخراجيّ حتّى وإن اتبعوا منهج «ستانسلافسكي» أو «ماير خولد» كما يزعمون، ولا يسعُنا مع غياب الحجج والدواعي لاستخدامها إلاّ أن نلاحظ الهشاشة في فهم آليّة تطبيقها.


الصدأ الّذي نال من مفاصل الخشبة السوريّة، وإعادة تصنيع عروضها  الخالية من الجِدّة على جميع الأصعدة، أَتْخَم المسرح والمتفرّج بالواقع المعاش، كعرض «مدينة في ثلاثةِ فصول» الذي انشغل بالكماليّات كالأصوات والروائح والغُبار المتناثر على الخشبة، كأنّه يُريد أن يُعمي المُشاهد عن ملاحظة سطحيّة العمل ككلّ.


وكذلك عرض «هوب هوب» أو عرض «هدنة»، فكلا العرضين لم يتخطيا المباشرة في الطرح، وتحوّلت خشبةِ المسرحِ  لقطعةِ أرضٍ سوريّةٍ تجري عليها كلّ مظاهرِ الحربِ من أصوات قذائف وقتل.. إلخ، كأنّنا أمام شريطٍ أخباريٍ أو منبرٍ لطرحِ المواقفِ السياسيّةِ المُتملّقة إمّا من خلالِ إسدالِ الأَعلام ِعلى خشبةِ المسرح أو تذليل العلم الإسرائيليّ، حتّى وصلت الأمور حدَّها حين ارتدى أحد المخرجين بزةً عسكريةً أثناء تحيّته للجمهور. وبذلك اكتفى المخرجون فقط بطرحِ مواقفٍ سياسيّة، ولم يفكروا في إدراكِ أنفسهِم بين هذه الفوضى نهائياً.


من الواضح أنّ إغراقِ المسرحِ بالهتافات التعبويّة يعبّر عن غياب الوعي بالعمليّةِّ المسرحيّةِ التراكميّة، ذلك الغياب الّذي يلخّص مأساة الخشبة بهجرها لما كان يتبلور من أشكال على صعيد المسرح أو الواقع على حدّ سواء، ولجوئِها إلى أشكالٍ ليست من صميم واقعها. هذا ما جعل مسيرته قصيرة، متقطعة، وصدئة.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +