طائرة نوح

طائرة نوح

«تم العثور صباح اليوم على الطائرة المفقودة منذ عام 2015، والتي سقطت في القطب الشمالي، وقال المحققون إن الطائرة كانت قد اصطدمت بجبل جليدي خلال هبوط الكابتن اضطرارياً، وإن جميع الركاب وُجدوا وقد حُفظت جثثهم في الثلج الذي أطفأ نيران الطائرة، وعددهم تسعون راكباً، كما أفاد مراسلنا بأن الطائرة كانت متجهة نحو شمال أوروبا قبل أن تضل طريقها لسبب مجهول».


أَطفِئ التلفاز ودعنا نتحدث عن هذا الخبر الذي حدث، لا تتخيل أنه سيحدث، فهو قد حدث فعلاً، دعكَ من البراميل والغرقى في المتوسط، دعكَ من شاحنةٍ اختنق فيها سبعون لاجئاً سورياً، ومن الطفل النائم على الشاطئ كأنه لم يمت، دعكَ من صحفية مجرمة عرقلت أباً وطفلَه بقدمها كي لا يدخلا بلادَها، هذه الأخبار قديمة جداً، بل إن آلافاً مثلها  توالت طازجة منذ ألف عام، ثم سرعان ما تحولَت إلى أرقام في غبار كتب التاريخ.


سبقَ وأن أحرِقَت مكتبةُ الإسكندرية، وقضى الأطفال جوعاً في الصومال، سبقَ وأن اختنق عشرات الألوف بغرف الغاز في سجون النازيين، مَن يهتم بذلك الآن! أما خبر الطائرة التي ضلت طريقها فإنه ما يستحق التداول، قيل إن المهاجرين ماتوا في السماء نتيجة الضغط الجوي، هربوا من الموت الأرضي، من براميل ستهبط فوقهم، فماتوا موتاً عُلْوياً، أو هبوطياً، وحده عباس ابن فرناس مَن فهم القضية، وقرر أن يتوقف عن قضم أصابعه ندماً بعد أن رأى طائرات الأسد، فقد شاهد السماء تهبط لتتفقد أرواحَ المهاجرين، بدلاً من أن تصعد الأرواح وحدها إلى السماء.


ستقول لي إن هؤلاء الركاب السوريين كانوا يحملون خواطر وآمالاً، شاردين في الغيم يتخيلون بوالين وألعاباً ومستقبلاً ملوناً يبنونه لأطفالهم بعيداً عن شعارات البعث ودخان القذائف، شابٌ يحلم بفتاة يصادفها في الأرض الغريبة ويُنجبان ولداً غريباً، فتاة بجانبه لم يكن يتراءى لها إلا والداها اللذان سيتبعانها فتعانقُ جسديهما اللذين نجيا من سيوف «داعش»، أما الأم في المقعد الأمامي فقد كانت تنظر إلى الخلف لكي تتأكد من أنها لم تنسَ ملابس رضيعها، وكأنها تركب سيارة لا طائرة. ستقولُ لي إنه لا يمكن أن يموت كل هذا، لا بد من أن الخواطر والأحلام تبقى محفوظة في مكان ما، حتى ولو رحل أصحابُها.


دعنا من هذه الهواجس ولنكمل الخبر، فالأحلام ماتت، لكن الجثث لم تزل محفوظة في الثلج، والآن، بعد ثلاثين سنة مرت على هذه الحادثة، لم يقترب أحد من الضحايا، ولا حتى الدببة، داخت الأرضُ من الدوران، مرت فصول ومُحيت بلاد واندثرت حضارات، والجثث ما زالت غافية دون معجزة الكهف، كما لو أنها خرجت للتو سليمة من الطائرة؛ وأنت تعرف، ما كان يُسمى بالشعب السوري قد زال منذ عقود، ملايين البشر اختفوا نفياً وحرقاً وتعذيباً، ولا نعلم أين جثثهم، فتلك البلاد أعلنتها الأمم المتحدة مقبرة جماعية، بينما وحده هذا الحادث خلد ضحاياه بدلاً من أن يفنيَهم.


العلماءُ حول الجثث عرفوا من ملامحها أنها سورية، إذِ اكتُشف مؤخراً أن عينَي السوري في ذلك العصر كانتا تشبهان عيون الحمَلِ أو النسر، وأحياناً كليهما، كما تبيَّنَ أن إبهامه الأيسر شديد الزرقة لكثرة ما بصم في المعابر الدولية، لم يشرِّح العلماء أحداً منهم، لأن إحدى الشركات العالمية قررت إقامة معرض دولي، كما قررت تنظيم رحلات جوية من جميع أنحاء العالم للتفرج على هذه الكائنات المتبقية من تلك البلاد المنقرضة، والتي كانت تُسمَّى سورية.


كنا نعرف أن تسعين راكباً هرَّبوا بلادهم معهم في طائرة نوح هذه، وكنا نظن أن أحداً منهم لم ينجُ، في حين أنهم جميعاً نَجوا ونجَّونا بموتهم الغريب، فالنجاة الطبيعية في عصر جهنم زوال، وحدهم الموتى في الثلج خالدون، وحدهم لا يكفّنهم أحد ولا يتآكلون، هم لم يخلفوا أبناءً ليرثوا لعنة الحرب، ولم يتركوا صوتاً تتبعه الأجيال، تركوا فقط جثثهم المجمَّدة شاهدة على ما حدث.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +