الرقة، خواتمٌ بلا أصابع!

الرقة، خواتمٌ بلا أصابع!

الرقة التي تركتنا نقترف خطيئة العيش بعيداً عنها، لم تكن حنونةً كالقلب، وليست قاسيةً كالوطن، ولم تكن واسعةً كالبيت، وليست ضيقةً كالخيمة. كانت باباً يستقبل العائدين من الحب، وما زالت باباً يستقبل العائدين من الحرب!! كانت قصيدةً تبحث عن شاعر يعتلي بها المنابر، وصارت حقيبة، نرتب فيها ذكرياتنا!!


الرقة، مدينتي الصغيرة، يحدّها الفرات من الجنوب، والحزن من باقي الجهات. أطلق عليها الغرباء الفتاوى من راجماتهم الفقهية، فأصبح نصف سكانها تحت الأنقاض، والنصف الآخر هاجروا!! الرقة التي تهطل عليها القذائف بعد كل صلاة استسقاء، لم تعد تؤمن بالحب الممنوع من الصرف.


 في صيف عام 2010 ودّعها المشاركون في الدورة السادسة من مهرجان الشعر العربي، فأصبحت بيوتها بلا شعراء، وأصبح شعراؤها بلا بيوت!! في النصف الثاني من كانون الأول 2010 غادرها المشاركون في الدورة السادسة من مهرجان العجيلي للرواية العربية، ولم يكتبها أحد منهم في يقينه!! في تشرين الثاني من عام 2009 استضافت الملتقى العالمي للفن التشكيلي في دورته الثانية، لا لشيء، فقط لتعطي للصورة حقها بعد أن أخذت الكلمة على منابرها جميع الحقوق، فلّون الفنانون المشاركون بالملتقى أجنحة الليل بالظلمة وغادروا!!


هكذا اعتادت أن تشغل نفسها بجمع الأمنيات التي لا تتحقق، فهي منذ الندوة الدولية لتاريخ الرقة1981 تختتم مهرجاناً وتفتتح ملتقىً، وقد كان يرافق تلك المهرجانات والملتقيات الثقافية جموع غير قليلة من الصحفيين والإعلاميين، بعضهم يأتي طمعاً في المكافأة المالية، وثمة من يرى فيها فرصة للتعرف على أصدقاء جدد، والبعض يعتبرها نزهة على حساب مديرية الثقافة، ولا يخلو الجمع من المسكونين بالشأن العام، وقد حاولوا أن يقدموا الرقة كعاصمة ثقافية، إلاّ أن العواصم لا تكون بالمقالات.


لم تستطع أن ترحل برفقة أسرارها، فبقيت كوردة استوطنت لوحة جدارية، وضاع أبناؤها في غابة من علامات التعجب والاستفهام، وبقيت حقائبهم عاطلة عن الرحيل. تلك هي حال المدن حين تؤمن بالتاريخ، إلا أن التاريخ لا يؤمن بأحد!!


أعرف أن بعض الكلمات كالقُبَل، إلا أنني لم أجدها في معجم الغربة ، فاتكأتُ على ظلي، ورحتُ أخون الحقائق، وأطعمها للأحلام الجائعة. فأنا لم أعد بحاجة لما أعرفه، لأن هذه الخردوات المعرفية ليست صالحة لإنجاب المستقبل. لقد اختصرتني المفوضية العليا لشؤون اللاجئين بصفة لاجئ، وسلة غذائية انتظمت لمدة شهرين، ثم تقطعت بها السبل!! والموت خرج من حيّز الاستثناء وخلع عباءته الميثولوجية، وصار بإمكانه أن يلتقي بمن يشاء دون موعد مسبق. لذلك سأترك الندم يتشكل بعيداً عني، وأرتب سريراً للأحلام المؤجلة، ولن أنتظر نتائج اختبارات الصحة الوطنية، لقد سرت في سيرة الخوف أربع سنوات حافي القلب، ولم ينتعل رجال السياسة حذاء الحل!!


سأراقبُ الطريق إليك لعلّ قبلة سقطت سهواً، لعلّ ابتسامة عبرت الرصيف بأسمائها الحسنى تثيرُ الأرقام في ذاكرة هاتفي الذي لم يتصل به أحد، فقد أتعبني ذلك الوطن الذي استيقظَ في منتصف عمري، وتركني أواجه ذِكراه أعزلاً، وكأنّي آخر فصل في الحكاية!!


سأكتبُ رسالةً لامرأة يمرُّ الضوء من مفرق نهديها، لعلها تفسحُ لعينيَّ طريقاً بينهما، فقد تعبتُ من رؤية الموت الذي يمشي عارياً في بلادي، وما زالت امرأة الحرب تنجب الغائبين!! تابوتٌ طويل من الأسماء، ليس أطول منه سوى صمت المجتمع الدولي عمّا يحدث فيها!!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +