باريس

باريس

تصل إلى باريس، محسودًا على تلك الفيزا التي طُبعت على جواز سفرك، تُصدَم فورًا بتلك المدينة التي طالما قرأت عنها وشاهدتها في الأفلام، لا بل وزرتها سائحًا مرة، وطالبًا مرة في حالتي. أنت مجددًا في مدينة النور، وعاصمة الثقافة، ولكنك في حال عاطفية لا تسمح لك بالسعادة، هذه المرة أنت مُقصىً هنا، لم تختر العيش هنا، وليس ثمة بقعةٌ في الأرض تعادل تلك التي خلفتها وراءك، تبحث في شوارع باريس عن مطاعم الفلافل، والشاروما، تصير المسبّحة التي لم تأكلها يومًا في سوريا، أكلتك المفضلة!


يغمرك شعور بوحدة ثقيلة، الناس هنا غاضبون، يسيرون بسرعة في مدينة تبتلعك وتبتلعهم. ولا يمكنك أن تعبر عن شعورك هذا بالوحدة، فأنت الأوفر حظًا، لم تمت غرقًا وأنت تحاول الوصول، كما أنك لم تمت قبل ذلك قصفًا وتعذيبًا، ولا بأي شكل من أشكال الموت التي كانت تنتشر حولك.


تُفاجأ كثيرًا حينما تدخل مطعمًا لتتناول طعام الغداء في الساعة الثالثة ظهرًا فيعتذر منك، لأن ساعة الغداء تبدأ في الثانية عشرة وتنتهي في الثانية ظهرًا. تعجزُ عن تقدير جمال المدينة فتنتقل منها إلى محيطها، تنهمك بأعمال ورقية، وانتظار لا ينتهي في طوابير الدور، وتغضب من بيروقراطية غير مبررة.


ثم، فجأة، يحدث ذلك السحر الغريب، إذ تزور المدينة، مسترخيًا، وتبدأ باستيعاب جمالها، تغزوك تدريجيًا تفاصيل الأبنية، يدهشك انتشار المتاحف، وتُغرم بحافة نهر السين حيث تسير متهاديًا متأملًا.


في مرحلةٍ لاحقة، وعندما تبدأ الانزعاجَ من السياح الذين يتدفقون من كل اتجاه ويتأملون باريس، تعرف أنك الآن في مرحلة الاندماج.


بالنسبة لي، عندما بدأتُ بالعمل على مشروع أبو فاكر فوياج، مع غسان زكريا وبسام داوود، ونزلنا إلى شوارع باريس من أجل التصوير، تغيرت علاقتي بهذه المدينة، فكان استكشاف أحداث الثورة الفرنسية، متلازمًا لدي باكتشاف عمق التاريخ في مدينة باريس. كما كان شعور الحرية الذي لا يوصف هو ذاك المترافق مع التنقل من مكان إلى آخر مع الكاميرا والتصوير في كل مكان دون أن نتعرض لأي إشكال، أما جموع الناس التي كانت تمر بشكل آلي من خلف الكاميرا خوفًا من إزعاجنا، فقد كانت نموذجًا حيًا على احترام عمل الآخرين وجهدهم.


في باريس، كم كبير من النشاطات يوميًا، خاصة الثقافية والفنية منها، وبحكم قلة التعود، أحتار دومًا ولا أعلم أيها أرغب بمشاهدته، إذ تُقدِّم المدينة خيارات لا تنتهي، من الفنون شديدة المعاصرة، إلى الأفلام من كل الجنسيات، مهرجانات احتفالية موسيقية، استضافات لثقافات العالم، معارض كلاسيكية في المتاحف، وأنا أبحث وأحتار.


باريس ليست مدينة أليفة، لم تدخل إلى قلبي بسرعة، ليست كبيروت أو اسطنبول من مدن منافينا المتعددة، ولكنها مدينة تعلّمك أن تكون أنت، أن لا تشبهها ولا تشبه إيقاعها، تعلمك أن تأخذ منها تلك المسافة المتأملة كي تُفاجأ بأنك أحببتها.


تتذكر دمشق، وتتخيلها، فتكره باريس، لأنها تفرض نفسها كمدينة، وأنت تصر على التمسك بمدينتك، ترفض باريس، لأنك تعلم أن دمشق كان من الممكن بسهولة أن تكون أبهى مدن الأرض. تتخيلُ دمشق معتنىً بها كباريس، لتخرج بدمشق خارقة البهاء، وبذاكرة مثقوبة وقلب مثقل، وتحاول ألا تقع في حب باريس، كي تعود.. كي لا تنسى.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +