ما جمعته اللذة، فرّقته الحرب!

ما جمعته اللذة، فرّقته الحرب!

كان علينا أن نسقط في اللذة لنختبر قناعاتنا: «أنا لا أؤمن بشيء، وأنت تؤمنين بالحب».


اللذة التي تأتي كتلويحةٍ في صباحٍ شتائيٍّ لمسافرٍ نسي أنْ يمسح بخار أنفاسه عن زجاج الحافلة، هي اللذة، شهوة الضباب الذي يلفّ أكثر اللحظاتِ حاجةً إلى الوضوح، عندما يصير الغيابُ مصادفةً في زقاق، ويصير الحزن بابًا مشرعًا للأصدقاء على النبيذ والضحك المتواصل. هي اللذة، تأتي لتكنس ما علق بنا من هذي البلاد، نخرج منها بكامل أوجاعنا، عراةً من الحرب إلى غرفةٍ في شتاء دمشق!


* * *


في غرفة ٍتعطي ظهرها لقاسيون، غير آبهةٍ بالحياة التي تسير على قدمٍ واحدةٍ، بالأعلام الّتي تؤكّد إخلاص الوطن لنفسه، بالحواجز الّتي تماهت مع المشهد وصار من الصعب الفصل بينهما، بالأغنيات الوطنيّة الرخيصة، بالشعارات المصنّعة محلّيًا كألبسة داخليّة قطنية تنسلّ خيوطها وتتجمع في سرّة المواطن.


في غرفةٍ من دمشق وخارجها، في زمنٍ يوازي الزمن دون أن يتورّط به!


غرفةٌ معلّقة في اللامكان فيها، كعلمٍ ممزّق وباهتٍ على ساريةِ مدرسةٍ لإيواء الضحايا والقتلة.


غرفةٌ خارج الحرب، أو داخلها كآخر معقل لعاشقين/صديقين!


* * *


- الحب مقامرةٌ  في زمن الحرب، كمن يضع نفسه وكلّ ما يملك في بحرٍ عاصف؛ ستخسر كلّ شيء، ستفقد ما يمكن أن تعطيه الحياة لك، وهمًا بأمانٍ مزيّف.


- الحب طوق نجاةٍ أخير!


- كلّنا ضحايا: العاشق والتاجر والشاعر والمرأة والعامل والجندي وبائع الجرائد وماسح الأحذية، لا أحد ينتصر في حربٍ تدور في بلادٍ لا تؤمن بالحياة مثلي!


-  ليس مهمًا أن نكون ضحايا، المهم أن نكون معًا!


ولأننا لم نكن نملك من الوقت ما يكفي، لم نتفق، وكان هذا اتفاقًا مبطّنا على البقاء معًا إلى أن يحين الوداع.


* * *


- لنكن أصدقاء!


خلف سرير وأريكة في ظهيرة طارئة، ودون أن أعي تمامًا ما يتوجب عليّ القيام به كصديقٍ مخلص، أغلقت الباب، ورفعت الستائر!


وكما يفعل الأصدقاء، جلسنا على الأريكة نتحدث عن البلاد. كانت فرصةً مناسبةً للطعن بإيمانك، لكنّ حزنكِ كان أكبر من رغبتي في التشفّي، أمسكت يدكِ وقبّلتها!


كنتُ أريد أن ألفت انتباهكِ إلى بلادٍ بعيدة، بلادٍ سعيدة تؤمن بالإنسان أوّلاً:


-سنكون أصدقاء رائعين، سأزوركِ كلّ مساء، سنشرب كأس نبيذ أو قهوة لا فرق، سأدعوكِ إلى العشاء، وسأقبل راضيًا الذهاب معكِ إلى السينما.


لكنني توقفت عندما رأيت دمعةً تفرّ من عينيكِ، أخذت يدكِ ثانية، جلست إلى جواركِ وتركت رأسي في حضنكِ. قلتِ لي:


- مالا تأخذه الحرب يأخذه الغياب!


حاولتُ أن أتماسك، أزحتُ نظراتي عن شفتيكِ ورحت أتأمّل الباب أمامي، أتابع الصدع في الدهان يمضي بعيدًا إلى الأسفل.


 للحظة نسيتكِ، رسمت حول الصدع صفصافًا وهضابًا، رأيت فلاحين، رأيت مدنًا كثيرة ونساء أخريات يلوّحن للغرباء بأجسادهنّ المحمّصة بدفء العبور والرغبة، رأيت شمسًا جهة الغرب، وحقول عبّاد الشمس جهة الجنوب.


كنت أتخيّل نفسي هاربًا من اللوحة إلى  الطريق، ومن الطريق إلى اللوحة، إلى الصدع، إلى الأرضِ، أعدّ البلاطات قبل أن تمتدّ يدكِ تمسح شعري.


لا أعرف كم مرّ من الوقت ونحن هناك، رأسي في حضنك، وعينك في اللاشيء تذرف دمعًا ساخنًا، كأنّ الوقت جندي عائدٌ إلى الحرب، مثقلٌ بوداع حبيبته، لَزِجٌ كطين الخندق، خفيفٌ كهدنةٍ تنقضي.


نهضتُ، تركت يدكَ تسرّح اللاشيء، لبست حذائي، ووضعت شالكِ في جيب معطفي.


* * *


أنا وأنتِ والوداع يعوي عند أقدامنا، بين وجهكِ الغائب في الدّمع وابتسامتي المصطنعة، في المسافة بين تنهيدة وأنفاسٍ متلاحقة.


وكما يودّع الأصدقاء بعضهم، مددت يدي إليكِ، عانقتكِ طويلاً، وانحزتُ إلى مربّع في عنقك، إلى ارتجافكِ بين يديّ، إلى عطركِ وهو يقضم المسافة بيننا.


كنّا مهزومين، ولم يكن أمامنا إلا أن نسقط بجسدينا من صحوة الوقتِ في لحظةٍ غائمة.



سقطت قناعاتنا أيضًا، سقط إلحادي وإيمانكِ، سقط وعينا التام بمساحات الفرح والحزن، تفاؤلك الساذج، يأسي المعقد. ما عاد مهمًا أن تستمر الحرب أو تتوقّف، أن يخرج الناس إلى الشوارع منتصرين أو يعود الرجال من الخنادق، والأصدقاء من مساحات الجدال ومواخير اللجوء.


كل شيء كان يسقط باهتًا بوضوحه أمام انغماسنا في اللحظة الغائمة!


* * *


كان الوداع يعوي في لهاثنا، وكنا نعوي نحن أيضًا، نتألّم، نبكي، تتقاطع نظراتنا، تتماهى في اشتباكٍ كالنشيج.


وكانت دمشق تقف خلف النافذة ملطّخة بأوحالها، بكامل قبحها، بقديسيها وعاهراتها وقوّادها، بأعلامها ونياشين جنرالاتها، بحواجزها وجبهاتها ومُرتَزقتها.


كانت دمشق في تلك اللحظة أضعف من أن تتدخّل لفض اشتباكٍ لذيذ بين رجلٍ وامرأة:


رجل لا يؤمن بشيء، وامرأة تؤمن بالحب!


* * *


لم نتفق...


 وما جمعته اللذة، فرّقته الحرب!

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +