السّاروت... حارس الكرامة، والثورة!

السّاروت... حارس الكرامة، والثورة!

في كانون الثاني عام 1992 في حيّ البيّاضة الحمصيّ، ولد «عبد الباسط الساروت»، لأسرةٍ نزحت من الجولان واستقرّت في الحيّ. وقد يكونُ من الصعبِ بمكانٍ، أن يبحثَ الكاتبُ عن تفاصيلَ في حياةِ الشاب ما بينَ عامي ولادتِهِ وولادةِ الثورة في بلاده. فالزمنُ بينهما لا يصلُ للعشرينَ سنة، وهوَ زمنٌ لا يكفي في بلادٍ مثلِ سوريا الأسد ليبني الفردُ شخصيّةً مستقلّةً، فما بالك بشخصيّةٍ مستقلّةٍ وذات علامةٍ فارقة! ذلكَ قد لا يحدثُ أبداً في تلك البلاد!


القصد، أنّ أهمّ حدثٍ في هذه الشخصية ما قبل 18 آذار 2011 هو انضمامه لصفوف نادي الكرامة الحمصيّ، واختيارِهِ كحارس مرمى لمنتخب شباب سوريا. ومع ذلكَ فقد اكتسبَ هذا الحدثُ أهميتهُ الكبرى بعد الثورة لا قبلها.


تتلخّصُ أهميةُ الساروت ما بعد انطلاق الانتفاضة في سوريا، في أنهُ من أولئكَ الشبّانِ الذينَ فعلوا كلّ شيء في الثورة ولها! فكما باتَ معلوماً لدى الجميع، دخل الشابُ بابَ الثورةِ من بوابةِ التظاهر، حيثُ شاركَ مع أهلِ حيّهِ وبقيةِ الأحياء الحمصيّة في المظاهرات الاحتفالية المناهضة لنظام الأسد، ثمّ ما لبثَ أن صارَ مُنشداً لهذه المظاهرات، ببحّةِ صوتٍ مميّزةٍ، ولهجةٍ تميلُ للبدوية رغم تأثيرِ اللهجة الحمصيّة الواضح فيها. كانت هذه البدايةُ الصارخة للساروت وما لاقتهُ من ردود فعلٍ تخطّت الحدود السورية، سبباً لرصد النظام مبلغَ مليوني ليرةٍ سورية آنذاك للقبضِ عليه، الأمرُ الذي منحهُ دفعًا شعبيًا إضافيّاً، ومنحَ شكل السلطةِ هشاشةً فوق الهشاشةِ التي سببها العنفُ اللامحدود واللامبرر.


في الوثيقةِ (التي ستصيرُ تاريخيةً حتماً) التي تعتبرُ الأكثر دلالةً على أسباب رمزيّةِ الساروت، وهي فيلم «العودة إلى حمص» للمخرج طلال ديركي، تُروى أكثر تفاصيلِ مشاركة الشاب في الثورة، من خلالِ سياقٍ يلخّصُ سيرورة الانتفاضة، إذ يظهرُ الساروتُ متظاهراً، ثمّ منشدًا، ثمّ مصاباً، فعائداً للمظاهرات، ثمّ أخًا لشهيدٍ، وابنًا لبيتٍ مدمّر، ثمّ مقاتلاً، فقائدًا لكتيبةٍ مقاوِمة، ثمّ مسعفاً، وحفاراً للقبورِ، فمُصاباً مجدداً، ومُحاصراً ومُطارداً. ثمّ وفي نهاياتِ العام 2014 خارجاً مع مجموعةٍ من المقاتلين الذين حوصروا في حمص القديمة، مُتجهاً إلى ريفها الشمالي، وبعد ذلكَ جاءَ التفصيلُ الذي يُعتبرُ مُهماً أيضاً، وهو اتهامُ الساروتِ بمبايعةِ تنظيم داعش. هنا يتماثلُ الشخصُ مع الحدثِ، وتتشابهُ السيرورتانِ. ويبقى الختامُ مفتوحاً على الاحتمالات.


بالعودة إلى فيلم «العودة إلى حمص»، حينَ عُرضَ الفيلمُ في ستوكهولم في العام الماضي، توقّفتُ طويلاً عند تفصيل إصابة الساروت الثانية التي كانت جرّاء محاولةٍ مجنونةٍ من قبلهِ وكتيبتهِ لفكّ الحصار عن المدينة القديمة وفتحِ ممراتٍ لخروجِ المدنيين، عندها، وبعد تلقّيهِ العلاج، وفي لحظاتٍ ما بينَ الغيب والصحو، كانَ الساروتُ الذي بدأ في مرحلة الإنعاش يصرخُ، أو يصرخُ لا وعيُهُ: نريدُ فتحَ ممراتٍ للمدنيين. توقفتُ طويلاً عند المشهد، ذلك أنّي كنتُ قد شهِدتُ مرةً قبلَ خروجي من سوريا، لحظاتٍ مشابهة تقريباً، حيثُ كنتُ برفقة شخصٍ لحظةَ خروجهِ من عملٍ جراحيّ في مشفى حكومي، وفي مدينةٍ تحت سيطرةِ النظام. أتذكّرُ جيّداً لحظاتِ اللاوعي تلك، حيثُ كان يصرخ وسطَ الغرفة: يا درعا حنّا معاكِ للموت! حتّى أنّ المرضى المجاورينَ كانوا يطلبونَ منا إسكاتهُ قبل أن يسمعهُ أحد!


لحظاتُ اللاوعي تلك تبقى الأكثر تشبّثاً بذاكرتنا، منها يُمكنُ الاستدلالُ، ومنها تتّضحُ الرؤية.


لكنّ الفارقَ بينَ الساروت وكثيرينَ سواه، أنّ حارسَ الكرامةِ والثورة، كان ثورياً خالصاً، بوعيِهِ وبلا وعيه، ليس ثمّة مسافةٌ تُذكرُ بين الاثنين.

الوسوم

التعليقات

تابعنا على   +